﴿وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ قال الضحاك وعكرمة : الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله على هذه المقالة من الجواب. وقال الكلبي : يحيي الله الأصنام يومئذ لتكذيب عابديها. وقال الجمهور : من عبد ممن يعقل ممن لم يأمر بعبادته كالملائكة وعيسى وعزير وهو الأظهر كقوله ﴿أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى﴾ وما بعده من المحاورة التي ظاهرها أنها لا تصدر إلاّ من العقلاء، وجاء ما يشبه ذلك منصوصاً في قوله ﴿ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَئاِكَةِ أَهَـا ؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ ﴿قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ﴾ وسؤاله تعالى وهو عالم بالمسؤول عنه ليجيبوا بما أجابوا به فيبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فيزيد حسرتهم ويسر المؤمنون بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفاً للمكلفين. وجاء الاستفهام مقدماً فيه الاسم على الفعل ولم يأت التركيب ولا أضلوا لأن كلاً من الإضلال والضلال واقع والسؤال إنما هو من فاعله. وتقدم نظير هذا في ﴿قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هذا بِـاَالِهَتِنَا يَـا إِبْرَاهِيمُ﴾ وقال الزمخشري : وفيه كسر بيِّن لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة حيث يقول للمعبودين من دونه ﴿أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى﴾ أم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤون من ضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون : بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا الرحمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا تبرأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منهم فهم لربهم الغنى العدل أشد تبرئة وتنزيهاً منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها. وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحا الإضلال المجازي الذي أسنده الله إلى ذاته في قوله ﴿يُضِلُّ مَن يَشَآءُ﴾ ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا بل أنت أضللتم انتهى. وهو على طريقة المعتزلة.
والمعنى ﴿ءَأَنتُمْ﴾ أوقعتم هؤلاء ونسبتم لهم في إضلالهم عن الحق، أم ﴿ضَلُّوا ﴾ بأنفسهم عنه. ضل أصله أن يتعدى بعن كقوله ﴿مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِا﴾ ثم أتسع فحذف، وأضله عن السبيل كما أن هدى يتعدى بإلى ثم يحذف ويضل مطاوع أضل كما تقول : أقعدته فقعد. و﴿سُبْحَـانَكَ﴾ تنزيه لله تعالى أن يشرك معه في العبادة أحد أو يفرد بعبادة فأنّى لهم أن يقع منهم إضلال أحدوهم المنزهون المقدسون، أن يكون أحد منهم نداً وهو المنزه عن الند والنظير.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٨٦
وقال الزمخشري :﴿سُبْحَـانَكَ﴾ تعجب منهم مما قيل لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضرل الذي هو مختص بإبليس وحزبه انتهى.
وقرأ علقمة ما ىنبغي بسقوط كان وقراءة الجمهور بثبوتها أمكن في المعنى لأنهم أخبروا عن حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه. وقرأ أبو عيسى الأسود القاري ﴿يَنابَغِى لَنَآ﴾ مبنياً للمفعول. وقال ابن خالويه : زعم سيبويه أن ينبغي لغة.
وقرأ الجمهور :﴿أَن نَّتَّخِذَ﴾ مبنياً للفاعل و﴿مِنْ أَوْلِيَآءَ﴾ مفعول على زيادة ﴿مَنِ﴾ وحسن زيادتها انسحاب النفي على ﴿نَّتَّخِذَ﴾ لأنه معمول لينبغي. وإذا انتفى الابتغاء لزم منه انتفاء متعلقة وهو اتخاذ وليّ من دون الله. ونظيره ﴿مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ﴾
٤٨٨
أي خير والمعنى ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحداً دونك، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك. وقال أبو مسلم ﴿مَا كَانَ يَنابَغِى لَنَآ﴾ أن نكون أمثال الشياطين نريد الكفر فنتولى الكفار قال ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ﴾. وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن عليّ وأخوه الباقر ومكحول والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي وشيبة وأبو بشر والزعفراني أن يُتخذ مبنياً للمفعول واتخذ مما يتعدى تارة لواحد كقوله ﴿أَمِ اتَّخَذُوا ءَالِهَةً مِّنَ الارْضِ﴾ وعليه قراءة الجمهور وتارة إلى اثنين كقوله ﴿أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاهُ﴾ فقيل : هذه القراءة منه فالأول الضمير في ﴿نَّتَّخِذَ﴾ والثاني ﴿مِنْ أَوْلِيَآءَ﴾ و﴿مَنِ﴾ للتبعيض أي لا يتخذ بعض أولياء وهذا قول الزمخشري.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٨٦