ولما تقدم الطعن على الرسول بأكل الطعام والمشي في الأسواق أخبر تعالى أنها عادة مستمرة في كل رسالة ومفعول ﴿أَرْسَلْنَا﴾ عند الزجاج والزمخشري ومن تبعهما محذوف تقديره أحداً. وقدره ابن عطية رجالاً أو رسلاً. وعاد الضمير في ﴿إِنَّهُمْ﴾ على ذلك المحذوف كقوله ﴿وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ﴾ أي وما منا أحد والجملة عند هؤلاء صفة أعني قوله ﴿إِلا إِنَّهُمْ﴾ كأنه قال إلاّ آكلين وماشين. وعند الفراء المفعول محذوف وهو موصول مقدر بعد إلاّ أي إلاّ من. ﴿إِنَّهُمْ﴾ والضمير عائد على ﴿مَنِ﴾ على معناها فيكون استثناء مفرغاً وقيل : إنهم قبله قول محذوف أي ﴿إِلا﴾ قيل ﴿إِنَّهُمْ﴾ وهذان القولان مرجوحان في العربية. وقال ابن الأنباري : التقدير إلاّ وإنهم يعنى أن الجملة حالية وهذا هو المختار. قد ردّ على من قال إن ما بعد إلاّ قد يجيء صفة وإما حذف الموصول فضعيف وقد ذهب إلى حكاية الحال أيضاً أبو البقاء قال : وقيل لو لم تكن اللام لكسرت لأن الجملة حالية إذ المعنى إلاّ وهم يأكلون. وقرىء ﴿إِنَّهُمْ﴾ بالفتح على زيادة اللام وإن مصدرية التقدير إلاّ أنهم يأكلون أي ما جعلناهم رسلاً إلى الناس إلاّ لكونهم مثلهم. وقرأ الجمهور :﴿وَيَمْشُونَ﴾ مضارع مشى خفيفاً. وقرأ عليّ وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله ﴿يَمْشُونَ﴾ مشدداً مبنياً للمفعول، أي يمشيهم حوائجهم والناس. قال الزمخشري : ولو قريء ﴿يَمْشُونَ﴾ لكان أوجه لولا الرواية انتهى. وقد قرأ كذلك أبو عبد الرحمن السلمي مشدد مبنياً للفاعل، وهي بمعنى ﴿يَمْشُونَ﴾ قراءة الجمهور. قال الشاعر :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٨٦
ومشى بأعطان المباءة وابتغىقلائص منها صعبة وركوب
﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ﴾. قال ابن عطية : هو عام للمؤن والكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الشاكر فتنة للغني، والرسول المخصوص بكرامة النبوّة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره، وكذلك العلماء وحكام العدل. وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى. وروي قريب من هذه عن ابن عباس والحسن. قال ابن عطية : والتوقيف بأتصبرون خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمّة محمد صلى الله عليه وسلّم، كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختباراً ثم وقفهم. هل تصبرون أم لا ؟ ثم أعرب قوله ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين.
وقال الزمخشري :﴿فِتْنَةً﴾ أي محنة وبلاء، وهذا تصبر لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على ما قالوه واستبعدوه
٤٩٠
من أكله الطعام ومشيه في اوسواق بعدما احتج عليهم بسائر الرسل يقول : جرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض. والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل ونحوه ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ﴾ الآية وموقع ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ بعد ذكر الفتنة موقع ﴿أَيُّكُمْ﴾ بعد الابتلاء في قوله ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ﴾.
﴿بَصِيرًا﴾ عالماً بالصواب فيما يبتلى به وبغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليهم سعادة، وفوزك في الدارين. وقيل : هو تسلية عما عيروه به من الفقر حين قالوا ﴿أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَه جَنَّةٌ﴾ وأنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء لينظر هل تصبرون وأنها حكمته ومشيئته يغني من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل : جعلنا فتنة لهم لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا، وإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله من غير طمع دينوي. وقيل : كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان فرفعوا علينا إدلالاً بالسابقة فهو افتتان بعضهم ببعض انتهى. وفيه تكثير وهذا القول الأخير قول الكلبي والفراء والزجاج. والأولى أن قوله ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ يشمل معاني هذه الألفاظ كلها لأن بين الجميع قدراً مشتركاً. وقيل : في قوله ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ أنه استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا، والظاهر حمل الرجاء على المشهور من استعماله والمعنى لا يأملون لقاءنا بالخير وثوابنا على الطاعة لتكذيبهم بالبعث لكفرهم بما جئت به. وقال أبو عبيدة وقوم : معناه لا يخافون. وقال الفراء : لا يرجون نشوراً لا يخافون، وهذه الكلمة تهامية وهي أيضاً من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف. فتقول : فلان لا يرجو ربه يريدون لا يخاف ربه، ومن ذلك ﴿مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ أي لا تخافون لله عظمة وإذا قالوا : فلان يرجو ربه فهذا معنى الرجاء لا على الخوف. وقال الشاعر :


الصفحة التالية
Icon