و﴿أَحْصَى ﴾ جوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون فعلاً ماضياً، وما مصدرية و﴿أَمَدًا﴾ مفعول به، وأن يكون أفعل تفضيل و﴿أَمَدًا﴾ تمييز. واختار الزجاج والتبريزي أن يكون أفعل للتفضيل واختار الفارسي والزمخشري وابن عطية أن تكون فعلاً ماضياً، ورجحوا هذا بأن ﴿أَحْصَى ﴾ إذا كان للمبالغة كان بناء من غير الثلاثي، وعندهم أن ما أعطاه وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب شاذ لا يقاس. ويقول أبو إسحاق : إنه قد كثر من الرباعي فيجوز، وخلط ابن عطية فأورد فيما بني من الرباعي ما أعطاه للمال وآتاه للخير وهي أسود من القار وماؤه أبيض من اللبن. وفهو لما سواها أضيع. قال : وهذه كلها أفعل من الرباعي انتهى. وأسود وأبيض ليس بناؤهما من الرباعي. وفي بناء أفعل للتعجب وللتفضيل ثلاثة مذاهب يبني منه مطلقاً وهو ظاهر كلام سيبويه، وقد جاءت منه ألفاظ ولا يبني منه مطلقاً وما ورد حمل على الشذود والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل. فلا يجوز، أو لغير النقل كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز أن تقول ما أشكل هذه المسألة، وما أظلم هذا الليل. وهذا اختيار ابن عصفور من أصحابنا. ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو، وإذا قلنا بأن ﴿أَحْصَى ﴾ اسم للتفضيل جاز أن يكون ﴿أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾ موصولاً مبنياً على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه، وهو كون ﴿أَيُّ﴾ مضافة حذف صدر صلتها، والتقدير ليعلم الفريق الذي هو ﴿أَحْصَى ﴾ ﴿لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ من الذين لم يحصوا، وإذا كان فعلاً ماضياً امتنع ذلك لأنه إذ ذاك لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل صلة بنفسه على تقدير جعل ﴿أَيُّ﴾ موصولة فلا يجوز بناؤها لأنه فات تمام شرطها، وهو أن يكون حذف صدر صلتها.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩١
وقال : فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل ؟ قلت : ليس
١٠٤
بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس، ونحو أعدي من الجرب، وأفلس من ابن المذلق شاذ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به، ولأن ﴿أَمَدًا﴾ لا يخلو إما أن ينصب بأفعل فأفعل لا يعمل، وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى، فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه ﴿أَحْصَى ﴾ كما أضمر في قوله :
واضرب منا بالسيوف القوانسا
على يضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون ﴿أَحْصَى ﴾ فعلاً ثم رجعت مضطراً إلى تقديره وإضماره انتهى. أما دعواه الشذوذ فهو مذهب أبي عليّ، وقد ذكرنا أن ظاهر مذهب سيبويه جواز بنائه من أفعل مطلقاً وأنه مذهب أبي إسحاق وأن التفصيل اختيار ابن عصفور وقول غيره. والهمزة في ﴿أَحْصَى ﴾ ليست للنقل. وأما قوله فافعل لا يعمل ليس بصحيح فإنه يعمل في التمييز، و﴿أَمَدًا﴾ تمييز وهكذا أعربه من زعم أن ﴿أَحْصَى ﴾ أفعل للتفضيل، كما تقول : زيداً أقطع الناس سيفاً، وزيد أقطع للهام سيفاً، ولم يعربه مفعولاً به. وأما قوله : وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى أي لا يكون سديداً فقد ذهب الطبري إلى نصب ﴿أَمَدًا﴾ بلبثوا. قال ابن عطية : وهذا غير متجه انتهى. وقد يتجه ذلك أن الأمد هو الغاية ويكون عبارة عن المدة من حيث أن للمدة غاية في أمد المدة على الحقيقة، وما بمعنى الذي و﴿أَمَدًا﴾ منتصب على إسقاط الحرف، وتقديره لما ﴿لَبِثُوا ﴾ من أمد أي مدة، ويصير من أمد تفسيراً لما أنهم في لفظ ﴿مَا لَبِثُوا ﴾ كقوله ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ﴾ ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل. وأما قوله : فإن زعمت إلى آخره فيقول : لا يحتاج إلى هذا الزعم لأنه لقائل ذلك أن يسلك مذهب الكوفيين في أن أفعل التفضيل ينتصب المفعول به، فالقوانس عندهم منصوب بأضرب نصب المفعول به، وإنما تأويله بضرب القوانس قول البصريين، ولذلك ذهب بعض النحويين إلى أن قوله ﴿أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ﴾ من منصوبة بأعلم نصب المفعول به، ولو كثر وجود مثل.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩١
واضرب منا بالسيوف القوانسا
لكنا نقيسه ويكون معناه صحيحاً لأن أفعل التفضيل مضمن معنى المصدر فيعمل بذلك التضمين، ألا ترى أن المعنى يزيد ضربنا بالسيوف القوانسا على ضرب غيرنا، ولما ذكر قوله ليعلم مشعراً باختلاف في أمرهم عقب بأنه تعالى هو الذي يقص شيئاً فشيئاً على رسوله صلى الله عليه وسلّم خبرهم ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي على وجه الصدق، وجاء لفظ ﴿نَّحْنُ نَقُصُّ﴾ موازياً لقوله لنعلم.


الصفحة التالية
Icon