الظاهر أنه تفقد جميع الطير، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا. قيل : وكان يأتيه من كل صنف واحد، فلم ير الهدهد. وقيل : كانت الطير تظله من الشمس، وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن، فمسته الشمس، فنظر إلى مكان الهدهد، فلم يره. وعن عبد الله بن سلام : أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا ماء فيها، وكان الهدهد يرى ظاهر الأرض وباطنها، وكان يخبر سليمان بذلك، فكانت الجن تخرجه في ساعة تسلخ الأرض كما تسلخ الشاة، فسأل عنه حين حلوا تلك المفازة، لاحتياجهم إلى الماء. وفي قوله ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ دلالة على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم. وقال عمر رضي الله عنه : لو أن سخلة على شاطىء الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر، وفي الكلام محذوف، أي فقد الهدهد حين تفقد الطير.
قال ابن عطية وقوله :﴿مَالِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾، مقصد الكلام الهدهد، غاب ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه، وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز والاستفهام الذي في قوله :﴿مَا لِى ﴾، ناب مناب ألف الاستفهام، فمعناه عنده : أغاب عني الآن فلم أره حالة التفقد ؟ أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته ؟ وقال الزمخشري : أم هي المنقطعة، نظر إلى مكان
٦٤
الهدهد فلم يبصره فقال :﴿مَالِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ ؟ على معنى : أنه لا يراه، وهو حاضر، لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب ؟ كأنه سأل صحة ما لا ح له، ونحوه قولهم : إنها لإبل أم شاء ؟ انتهى. والصحيح أن أم في هذا هي المنقطعة، لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة، كانت أم منقطعة، وهنا تقدم ما، ففارت شرط المتصلة. وقيل : يحتمل أن تكون من المقلوب وتقديره : ما للهدهد لا أراه ؟ ولا ضرورة إلى ادعاء القلب. وفي الكشاف، أن سليمان لما تم له بناء بيت المقدس، تجهز للحج، فوافى الحرم وأقام به ما شاء، ثم عزم على المسير إلى اليمن، فخرج من مكة صباحاً يؤم سهيلاً، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء أعجبته خضرتها، فنزل ليتغذى ويصلي، فلم يجد الماء، وكان الهدهد يأتيه، وكان يرى الماء من تحت الأرض. وذكر أنه كان الجن يسلخون الأرض حتى يظهر الماء.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠
﴿لاعَذِّبَنَّه عَذَابًا شَدِيدًا﴾ : أبهم العذاب الشديد، وفي تعيينه أقوال متعارضة، والأجود أن يجعل أمثلة. فعن ابن عباس، ومجاهد، وابن جريج : نتف ريشه. وقال ابن جريج : ريشه كله. وقال يزيد بن رومان : جناحه. وقال ابن وهب : نصفه ويبقى نصفه. وقيل : يراد مع نتفه تركه للشمس. وقيل : يحبس في القفص. وقيل : يطلى بالقطران ويشمس. وقيل : ينتف ويلقى للنمل. وقيل : يجمع مع غير جنسه. وقيل : يبعد من خدمة سليمان عليه السلام. وقيل : يفرق بينه وبين إلفه. وقيل : يلزم خدمة امرأته، وكان هذا القول من سليمان غضباً لله، حيث حضرت الصلاة وطلب الماء للوضوء فلم يجده، وأباح الله له ذلك للمصلحة، كما أباح البهائم والطيور للأكل، وكما سخر له الطير، فله أن يؤدّيه إذا لم يأت ما سخر له.
وقرأ الجمهور : أو ليأتيني، بنون مشددة بعدها ياء المتكلم، وابن كثير : بنون مشددة بعدها نون الوقاية بعد الياء ؛ وعيسى بن عمر : بنون مشددة مفتوحة بغير ياء. والسلطان المبين : الحجة والعذر، وفيه دليل على الإغلاط على العاصين وعقابهم. وبدأ أولاً بأخف العقابين، وهو التعذيب ؛ ثم أتبعه بالأشد، وهو إذهاب المهجة بالذبح، وأقسم على هذين لأنهما من فعله، وأقسم على الإتيان بالسلطان وليس من فعله لما نظم الثلاثة في الحكم بأو، كأنه قال : ليكونن أحد الثلاثة، والمعنى : إن أتى بالسلطان، لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإلا كان أحدهما. ولا يدل قسمه على الإتيان على ادعاء دراية، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنه يأتيه بسلطان، فيكون قوله :﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ﴾ عن دراية وإيقان.


الصفحة التالية
Icon