وقرأ الجمهور : فمكث، بضم الكاف ؛ وعاصم، وأبو عمرو في رواية الجعفي، وسهل، وروح : حّبضمها. وفي قراءة أبيّ : فيمكث، ثم قال : وفي قراءة عبد الله : فيمكث، فقال : وكلاهما في الحقيقة تفسير لا قراءة، لمخالفة ذلك سواد المصحف، وما روي عنهما بالنقل الثابت. والظاهر أن الضمير في فمكث عائد على الهدهد، أي غبر زمن بعيد، أي عن قرب. ووصف مكثه بقصر المدة، للدلالة على إسراعه، خوفاً من سليمان، وليعلم كيف كان الطير مسخراً له، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله. وقيل : وقف مكاناً غير بعيد من سليمان، وكأنه فيما روي، حين نزل سليمان حلق الهدهد، فرأى هدهداً، فانحط عليه ووصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس وعظم منه، وذهب معه لينظر، فما رجع إلا بعد العصر. وقيل : الضمير في فمكث لسليمان. وقيل : يحتمل أن يكون لسليمان وللهدهد، وفي الكلام حذف، فإن كان غير بعيد زماناً، فالتقدير : فجاء سليمان، فسأله : ما غيبك ؟ فقال : أحطت ؛ وإن كان مكاناً، فالتقدير : فجاء فوقف مكاناً قريباً من سليمان، فسأله : ما غيبك ؟ وكان فيما روي قد علم بما أقسم عليه سليمان، فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه، وهو أن غيبته كانت لأمر
٦٥
عظيم عرض له، فقال :﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾، وفي هذا جسارة من لديه علم، لم يكن عند غيره، وتبجحه بذلك، وإبهام حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المهم ما هو. ومعنى الإحاطة هنا : أنه علم علماً ليس عند نبي الله سليمان.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠
قال الزمخشري : ألهم الله الهدهد، فكافح سليمان بهذا الكلام، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به سليمان، لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته، لا يخفى منه معلوم، قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أعلم منه. انتهى.
ولما أبهم في قوله :﴿بِمَا لَمْ تُحِطْ﴾، انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاماً، وهو قوله :﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإا بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾، إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه، وأنه له علم بخبر مستيقن له. وقرأ الجمهور : من سبأ، مصروفاً، هذا وفي :﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ﴾، وابن كثير، وأبو عمرو : بفتح الهمزة، غير مصروف فيهما، وقنبل من طريق النبال : بإسكانها فيهما. فمن صرفه جعله اسماً للحي أو الموضع أو للأب، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد، تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة. والستة : حمير، وكندة، والأزد، وأشعر، وخثعم، وبجيلة ؛ والأربعة : لخم، وجذام، وعاملة، وغسان. وكان سبأ رجلاً من قحطان اسمه عبد شمس. وقيل : عامر، وسمي سبأ لأنه أول من سبأ، ومن منعه الصرف جعله اسماً للقبيلة أو البقعة، وأنشدوا على الصرف :
الواردون وتيم في ذرى سبأقد عض أعناقهم جلد الجواميس
ومن سكن الهمزة، فلتوالي الحركات فيمن منع الصرف، وإجراء للوصل مجرى الوقف. وقال مكي : الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي. انتهى. وقرأ الأعمش : من سبأ، بكسر الهمزة من غير تنوين، حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية، ويبعد توجيهها. وقرأ ابن كثير في رواية : من سبأ، بتنوين الباء على وزن رحى، جعله مقصوراً مصروفاً. وذكر أبو معاذ أنه قرأ من سبأ : بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة، بناه على فعلى، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم. وروى ابن حبيب، عن اليزيدي : من سبأ، بألف ساكنة، كقولهم : تفرقوا أيدي سبا. وقرأت فرقة : بنبأ، بألف عوض الهمزة، وكأنها قراءة من قرأ : لسبا، بالألف، لتتوازن الكلمتان، كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمز المكسور والتنوين. وقال في التحرير : إن هذا النوع في علم البديع يسمى بالترديد، وفي كتاب التفريع بفنون البديع. إن الترديد رد أعجاز البيوت على صدورها، أو رد كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني، ويسمى أيضاً التصدير، فمثال الأول قوله :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠
سريع إلى ابن العم يجبر كسرهوليس إلى داعي الخنا بسريع
ومثال الثاني قوله :
والليالي إذا نأيتم طوالوالليالي إذا دنوتم قصار
وذكر أن مثل :﴿مِن سَبَإا بِنَبَإٍ﴾، يسمى تجنيس التصريف، قال : وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف، ومنه قوله تعالى :﴿ذَالِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ﴾، وما ورد في الحديث :"الخيل معقود في نواصيها الخير". وقال الشاعر :
لله ما صنعت بناتلك المعاجر والمحاجر


الصفحة التالية
Icon