وقال الزمخشري : وقوله :﴿مِن سَبَإا بِنَبَإٍ﴾، من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن
٦٦
الكلام الذي يتعلق باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعاً، أو بصيغة عالم بجوهر الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده. ولقد جاء هنا زائداً على الصحة، فحسن وبدع لفظاً ومعنى. ألا ترى لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحاً ؟ وهو كما جاء أصح، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال. انتهى. والزيادة التي أشار إليها هي أن النبأ لا يكون إلا الخبر الذي له شأن، ولفظ الخبر مطلق، ينطلق على ماله شأن وما ليس له شأن.
ولما أبهم الهدهد أولاً، ثم أبهم ثانياً دون الإبهام، صرح بما كان أبهمه فقال :﴿إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾. ولا يدل قوله :﴿تَمْلِكُهُمْ﴾ على جواز أن تكون المرأة ملكة، لأن ذلك كان من فعل قوم بلقيس، وهم كفار، فلا حجة في ذلك. وفي صحيح البخاري، من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلّم، لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال :"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح عنه. ونقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه، لا على الإطلاق، ولا أن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما ذلك على سبيل التحكم والاستنابة في القضية الواحدة. ومعنى وجدت هنا : أصبت، والضمير في تملكهم عائد على سبأ، إن كان أريد القبيلة، وإن أريد الموضع، فهو على حذف، أي وجئتك من أهل سبأ.
والمرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك اليمن كلها، وقد ولد له أربعون ملكاً، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس. واختلف في اسم أبيها اختلافاً كثيراً. قيل : وكانت أمها جنية تسمى ريحانة بنت السكن، تزوجها أبوها، إذ كان من عظميه لم ير أن يتزوج أحداً من ملوك زمانه، فولدت له بلقيس، وقد طولوا في قصصها بما لم يثبت في القرآن، ولا الحديث الصحيح.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠
وبدأ الهدهد بالإخبار عن ملكها، وأنها أوتيت من كل شيء، وهذا على سبيل المبالغة، والمعنى : من كل شيء احتاجت إليه، أو من كل شيء في أرضها. وبين قول الهدهد ذلك، وبين قول سليمان :﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ ﴾ فرق، وذلك أن سليمان عطف على قوله :﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾، وهو معجزة، فيرجع أولاً إلى ما أوتي من النبوة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطف الهدهد على الملك، فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها. ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾، قال ابن زيد : هو مجلسها. وقال سفيان : هو كرسيها، وكان مرصعاً بالجواهر، وعليه سبعة أبواب. وذكروا من وصف عرشها أشياء، الله هو العالم بحقيقة ذلك، واستعظام الهدهد عرشها، إما لاستصغار حالها أن يكون لها مثل هذا العرش، وإما لأن سليمان لم يكن له مثله، وإن كان عظيم المملكة في كل شيء، لأنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هو تحت طاعته.
ولما كان سليمان قد آتاه الله من كل شيء، وكان له عرش عظيم، أخبره بهذا النبأ العظيم، حيث كان في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك. ولم يلتفت سليمان لذلك، إذ كان معرضاً عن أمور الدنيا. فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين، وما أحسن انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك، أخبر أولاً باطلاعه على ما لم يطلع عليه سليمان، تحصناً من العقوبة، بزينة العلم الذي حصل له، فتشوف السامع إلى علم ذلك. ثم أخبرنا ثانياً يتعلق ذلك العلم، وهو أنه من سبأ، وأنه أمر متيقن لا شك فيه، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ. ثم أخبر ثالثاً عن الملك الذي أوتيته امرأة، وكان سليمان عليه السلام قد سأل الله أن يؤتيه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده. ثم أخبر رابعاً ما ظاهره الإشتراك بينه وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا شأن النساء أن تملك فحول الرجال، وهو قوله :﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ﴾، وقوله :﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾، وكان سليمان له بساط قد صنع له، وكان عظيماً. ولما لم يتأثر سليمان للإخبار بهذا كله، إذ هو أمر دنياوي، أخبره خامساً بما يهزه لطلب
٦٧
هذه الملكة، ودعائها إلى الإيمان، وإفراده بالعبادة فقال :﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾، وقد تقدم القول : إنهم كانوا مجوساً يعبدون الأنوار، وهو قول الحسن. وقيل : كانوا زنادقة.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠


الصفحة التالية
Icon