ولما فرغ الهدهد من كلامه، وأبدى عذره في غيبته، أخر سليمان أمره إلى أن يتبين له صدقه من كذبه فقال :﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ﴾ في أخبارك أم كذبت. والنظر هنا : التأمل والتصفح، وأصدقت : جملة معلق عنها سننظر، وهي في موضع نصب على إسقاط حرف الجر، لأن نظر، بمعنى التأمل والتفكر، إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في. وعادل بين الجملتين بأم، ولم يكن التركيب أم كذبت، لأن قوله :﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ﴾ أبلغ في نسبة الكذب إليه، لأن كونه من الكاذبين يدل على أنه معروف بالكذب، سابق له هذا الوصف قبل الإخبار بما أخبر به. وإذا كان قد سبق له الوصف بالكذب، كان متهماً فيما أخبر به، بخلاف من يظن ابتداء كذبه فيما أخبر به. وفي الكلام حذف تقديره : فأمر بكتابة كتاب إليهم، وبذهاب الهدهد رسولاً إليهم بالكتاب، فقال :﴿اذْهَب بِّكِتَـابِى هَـاذَا﴾ : أي الحاضر المكتوب الآن. ﴿فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ : أي تنح عنهم إلى مكان قريب، بحيث تسمع ما يصدر منهم وما يرجع به بعضهم إلى بعض من القول.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠
وفي قوله :﴿اذْهَب بِّكِتَـابِى هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾ دليل على إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام، يبلغهم الدعوة ويدعوهم إلى ازسلام. وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى كسرى وقيصر وغيرهما ملوك العرب. وقال وهب : أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدّب به الملوك، بمعنى : وكن قريباً بحيث تسمع مراجعاتهم. وقال ابن زيد : أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه، أي ألقه وارجع. قال : وقوله :﴿فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ في معنى التقديم على قوله :﴿فَمَآ أَغْنَتْ عَنْهُمْ﴾. انتهى. وقاله أبو علي، ولا ضرورة تدعو إلى التقديم والتأخير، بل الظاهر أن النظر معتقب التولي عنهم. وقرىء في السبعة : فألقه، بكسر الهاء وياء بعدها، وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء. وقرأ مسلم بن جندب : بضم الهاء وواو بعدها، وجمع في قوله :﴿إِلَيْهِم﴾ الهدهد قال :﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا﴾. وفي الكتاب أيضاً ضمير الجمع في قوله :﴿وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى﴾، والكتاب كان فيه الدعاء إلى الإسلام لبلقيس وقومها. ومعنى :﴿فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ : أي تأمل واستحضره في ذهنك. وقيل معناه : فانتظر. ماذا : إن كان معنى فانظر معنى
٧٠
التأمل بالفكر، كان انظر معلقاً، وماذا : إما كلمة استفهام في موضع نصب، وإما أن تكون ما استفهاماً وذا موصول بمعنى الذي. فعلى الأول يكون يرجعون خبراً عن ماذا، وعلى الثاني يكون ذا هو الخبر ويرجعون صلة ذا. وإن كان معنى فانظر : فانتظر، فليس فعل قلب فيعلق، بل يكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي، أي فانتظر الذي يرجعون، والمعنى : فانظر ماذا يرجعون حتى ترد إلى ما يرجعون من القول.
﴿قَالَتْ يَـا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالامْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةًا وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةُا بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَـانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ ءَاتَـانِاَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ ءَاتَـاكُما بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَـاغِرُونَ﴾.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠
في الكلام حذف تقديره : فأخذ الهدهد الكتاب وذهب به إلى بلقيس وقومها وألقاه إليهم، كما أمره سليمان. فقيل : أخذه بمنقاره. وقيل : علقه في عنقه، فجاءها حتى وقف على رأسها، وحولها جنودها، فرفرف بجناحيه، والناس ينظرون إليه، حتى رفعت رأسها، فألقى الكتاب في حجرها. وقيل : كانت في قصرها قد غلقت الأبواب واستلقت على فراشها نائمة، فألقي الكتاب على نحرها. وقيل : كانت في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم، فإذا نظرت إليها سجدت، فجاء الهدهد فسدها بجناحه، فرأت ذلك وقامت إليه، فألقى الكتاب إليها، وكانت قارئة عربية من قوم تبع. وقيل : ألقاه من كوة وتوارى فيها.


الصفحة التالية
Icon