وصف برد الطرف، ووصف الطرف بالارتداد. فالمعنى أنك ترسل طرفك، فقبل أن ترده أتيتك به، وصار بين يديك. فروي أن آصف قال لسليمان عليه السلام : مد عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد طرفه فنظر نحو اليمن، فدعا آصف فغاب العرش في مكانه بمأرب، ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله، قبل أن يرد طرفه. وقال ابن جبير، وقتادة : قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى. وقال مجاهد : قبل أن تحتاج إلى التغميض، أي مدة ما يمكنك أن تمد بصرك دون تغميض، وذلك ارتداده. قال ابن عطية : وهذان القولان يقابلان قول من قال : إن القيام هو من مجلس الحكم، ومن قال : إن القيام هو من الجلوس، فيقول في ارتداد الطرف هو أن تطرف، أي قبل أن تغمض عينيك وتفتحهما، وذلك أن الثاني يعطي الأقصر في المدة ولا بد. انتهى. وقيل : طرفك مطروفك، أي قبل أن يرجع إليك من تنظر إليه من منتهى بصرك، وهذا هو قول ابن جبير وقتادة المتقدم، لأن من يقع طرفك عليه هو مطروفك. وقال الماوردي : قبل أن ينقبض إليك طرفك بالموت، فخبره أنه سيأتيه قبل موته، وهذا تأويل بعيد، بل المعنى آتيك به سريعاً. وقيل : ارتداد الطرف مجاز هنا، وهو من باب مجاز التمثيل، والمراد استقصار مدة الإتيان به، كما تقول لصاحبك : افعل كذا في لحظة، وفي ردة طرف، وفي طرفة عين، تريد به السرعة، أي آتيك به في مدة أسرع من مدة العفريت.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠
﴿فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا﴾ عنده : في الكلام حذف تقديره : فدعا الله فأتاه به، فلما رآعه : أي عرش بلقيس. قيل : نزل على سليمان من الهواء. وقيل : نبع من الأرض. وقيل : من تحت عرش سليمان، وانتصب مستقراً على الحال، وعنده معمول له. والظرف إذا وقع في موضع الحال، كان العامل فيه واجب الحذف. فقال ابن عطية : وظهر العامل في الظرف من قوله :﴿مُسْتَقِرًّا﴾، وهذا هو المقدر أبداً في كل ظرف وقع في موضع الحال. وقال أبو البقاء : ومستقراً، أي ثابتاً غر متقلقل، وليس بمعنى الحضور المطلق، إذ لو كان كذلك لم يذكر. انتهى. فأخذ في مستقراً أمراً زائداً على الاستقرار المطلق، وهو كونه غير متقلقل، حتى يكون مدلوله غير مدلول العندية، وهو توجيه حسن لذكر العامل في الظرف الواقع حالاً ؛ وقد رد ذكر العامل في ما وقع خبراً من الجار والمجرور التام في قول الشاعر :
لك العزان مولاك عزوان يهنفأنت لدى بحبوحة الهون كائن
﴿قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّى﴾ : أي هذا الإتيان بعرشها، وتحصيل ما أردت من ذلك، هو من فضل ربي عليّ وإحسانه، ثم علل ذلك بقوله :﴿قَالَ الَّذِى عِندَه عِلْمٌ﴾. قال ابن عباس : المعنى أأشكر على السرير وسوقه أم أكفر ؟ إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني. انتهى. وتلقى سليمان النعمة وفضل الله بالشكر، إذ ذاك نعمة متجددة، والشكر قيد للنعم. وأأشكر أم أكفر في موضع نصب ليبلوني، وهو
٧٧
معلق، لأنه في معنى التمييز، والتمييز في معنى العلم، وكثير التعليق في هذا الفعل إجراء له مجرى العلم، وإن لم يكن مرادفاً له، لأن مدلوله الحقيقي هو الاختبار. ﴿وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِا﴾ : أي ذلك الشكر عائد ثوابه إليه، إذ كان قد صان نفسه عن كفران النعمة، وفعل ما هو واجب عليه من شكر نعمة الله عليه. ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ : أي فضل الله ونعمته عليه، فإن ربي غني عن شكره، لا يعود منفعتها إلى الله، لأنه هو الغني المطلق الكريم بالإنعام على من كفر نعمته. والظاهر أن قوله :﴿فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ﴾ هو جواب الشرط، ولذلك أضمر فاء في قوله :﴿غَنِىٌّ﴾، أي عن شكره. ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً دل عليه ما قبله من قسيمة، أي ومن كفر فلنفسه، أي ذلك الكفر عائد عقابه إليه. ويجوز أن تكون ما موصولة، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠