﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا﴾. روي أن الجن أحست من سليمان، أو ظنت به أنه ربما تزوج بلقيس، فكرهوا ذلك ورموها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة، وأن رجلها كحافر دابة، فجرب عقلها وميزها بتنكير العرش، ورجلها بالصرح، لتكشف عن ساقيها عنده. وتنكير عرشها، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : بأن زيد فيه ونقص منه. وقيل : بنزع ما عليه من الفصوص والجواهر. وقيل : يجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره. والتنكير : جعله متنكراً متغيراً عن شكله وهيئته، كما يتنكر الرجل للناس حتى لا يعرفوه. وقرأ الجمهور : ننظر : بالجزم على جواب الأمر. وقرأ أبو حيوة : بالرفع على الاستئناف. أمر بالتنكير، ثم استأنف الإخبار عن نفسه بأنه ينظر، ومتعلق أتهتدي محذوف. والظاهر أنه أتهتدي لمعرفة عرشها ولا يجعل تنكيره قادحاً في معرفتها له فيظهر بذلك فرط عقلها وأنها لم يخف عليه حال عرشها وإن كانوا قد راموا الإخفاء أو أتهتدي للجواب المصيب إذا سئلت عنه، أو أتهتدي للإيمان بنبوة سليمان عليه السلام إذا رأت هذا المعجز من نقل عرشها من المكان الذي تركته فيه وغلقت الأبواب عليه وجعلت له حراساً.
﴿فَلَمَّا جَآءَتْ﴾، في الكلام حذف، أي فنكروا عرشها ونظروا ما جوابها إذا سئلت عنه. ﴿فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَـاكَذَا عَرْشُكِ﴾ : أي مثل هذا العرش الذي أنت رأيتيه عرشك الذي تركتيه ببلادك ؟ ولم يأت التركيب : أهذا عرشك ؟ جاء بأداة التشبيه، لئلا يكون ذلك تلقيناً لها. ولما رأته على هيئة لا تعرفها فيه، وتميزت فيه أشياء من عرشها، لم تجزم بأنه هو، ولا نفته النفي البالغ، بل أبرزت ذلك في صورة تشبيهية فقالت :﴿كَأَنَّه هُوَ﴾، وذلك من جودة ذهنها، حيث لم تجزم في الصورة المحتملة بأحد الجائزين من كونه إياه أو من كونه ليس إياه، وقابلت تشبيههم بتشبيهها. والظاهر أن قوله :﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ﴾ إلى قوله :﴿مِن قَوْمٍ كَـافِرِينَ﴾ ليس من كلام بلقيس، وإن كان متصلاً بكلامها. فقيل : من كلام سليمان. وقيل : من كلام قوم سليمان وأتباعه. فإن كان من قول سليمان فقيل : العلم هنا مخصوص، أي وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة. ﴿مِن قَبْلِهَا﴾ أي من قبل مجيئها. ﴿وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ : موحدين خاضعين. وقال ابن عطية : وفي الكلام حذف تقديره كأنه هو، وقال سليمان عند ذلك :﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا﴾ الآية، قال ذلك على جهة تعديد نعم الله تعالى، وإنما قال ذلك بما علمت هي وفهمت، ذكر هو نعمة الله عليه وعلى آبائه. انتهى ملخصاً. وقال الزمخشري : وأوتينا العلم من كلام سليمان وملائه، فإن قلت : علام عطف هذا الكلام وبما اتصل ؟ قلت : لما كان المقام الذي سئلت فيه عن عرشها، وأجابت بما أجابت به مقاماً، أجرى فيه سليمان وملأه ما يناسب قولهم :﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ﴾، نحو أن يقولوا عند قولها :﴿كَأَنَّه هُوَ﴾، قد أصابت في جوابها، فطبقت المفصل، وهي عاقلة لبيبة، وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة النبوّة بالآيات التي تقدمت عند وفدة المنذر.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠
وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم :
٧٨
وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان ما جاء من عنده قبل علمها، ولم نزل نحن على دين الإسلام، شكروا الله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها وصدها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة. ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولاً بقولها ﴿كَأَنَّه هُوَ﴾، والمعنى : وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة، أو قبل هذه الحالة، يعني ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام. ثم قال الله تعالى :﴿وَصَدَّهَا﴾ قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل. وقيل : وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار واتصال الفعل. انتهى. أما قوله : ويجوز أن يكون من كلام بلقيس، فهو قول قد تقدم إليه على سبيل التعيين لا الجوار. قيل : والمعنى وأوتينا العلم بصحة نبوته بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة، يعني إحضار العرش. وكنا مسلمين مطيعين لأمرك منقادين لك. والظاهر أن الفاعل بصدّها هو قوله :﴿مَا كَانَت تَّعْبُدُ﴾، وكونه الله أو سليمان، وما مفعول صدّها على إسقاط حرف الجر، قاله الطبري، وهو ضعيف لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، نحو قوله :
تمرون الديار ولم تعوجوا


الصفحة التالية
Icon