وقرأ الجمهور :﴿بَلِ ادَّارَكَ﴾، أصله ادارك، فأدغمت التاء في الدال فسكنت، فاجتلبت همزة الوصل. وقرأ أبي : أم تدارك، على الأصل، وجعل أم بدل. وقرأ سليمان بن يسار أخوه : بل ادّرك، بنقل حركة الهمزة إلى اللام، وشدّ الدال بناء على أن وزنه افتعل، فأدغم الدال، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالاً، فصار قلب الثاني للأول لقولهم : اثرد، وأصله اثترد من الثرد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام، أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل، ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل. وقرأ أبو رجاء والأعرج، وشيبة، وطلحة، وتوبة العنبري : كذلك، إلا أنهم كسروا لام بل ؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعاصم، والأعمش. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وأهل مكة : بل ادرك، على وزن أفعل، بمعنى تفاعل، ورويت عن أبي بكر، عن عاصم. وقرأ عبد الله في رواية، وابن عباس في رواية، وابن أبي جمرة، وغيره عنه، والحسن، وقتادة، وابن محيصن : بل آدرك، بمدة بعد همزة الاستفهام، وأصله أأدرك، فقلب الثانية ألفاً تخفيفاً، كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه الرواية ووجهها. وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام بعد بل، لأن بل إيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى : لم يكن كقوله تعالى :﴿أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ﴾، أي لم يشهدوا، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار. انتهى. وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد بل، وشبهه بقول القائل : أخيراً أكلت بل أماء شربت ؟ على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني. وقرأ مجاهد : أم ادرك، جعل أم بدل بل، وادرك على وزن أفعل. وقرأ ابن عباس أيضاً : بل إدّارك، بهمزة داخلة على ادارك، فيسقط همزة الوصل المجتلبة، لأجل الإدغام والنطق بالساكن. وقرأ ابن مسعود أيضاً : بل أأدرك، بهمزتين، همزة الاستفهام وهمزة أفعل. وقرأ الحسن أيضاً، والأعرج : بل ادرج، بهمزة وإدغام فاء الكلمة، وهي الدال في تاء افتعل، بعد صيرورة التاء دالاً. وقرأ ورش في رواية : بل ادّرك، بحذف همزة ادرك ونقل حركتها إلى اللام. وقرأ ابن عباس أيضاً : بلى ادرك، بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي. وقرىء : بل آأدرك، بألف بين الهمزتين. فأما قراءة من قرأ بالاستفهام، فقال ابن عباس : هو للتقريع بمعنى لم يدرك علمهم على الإنكار عليهم. وقال الزمخشري : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك قراءة من قرأ : أم ادّرك، وأم تدارك، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة. انتهى. وقال ابن عطية : هو على معنى الهزء بالكفرة والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم، أي اعلموا أمر الآخرة وادّركها علمهم. وأما قراءة من قرأ على الخبر، فقال ابن عباس : المعنى : بل تدارك علمهم ما جهلوه في الدنيا، أي علموه في الآخرة، بمعنى : تكامل علمهم في الآخرة بأن كل ما وعدوا به حق، وهذا حقيقة إثبات العلم لهم، لمشاهدتهم عياناً في الآخرة ما وعدوا به غيباً في الدنيا، وكونه بمعنى المضي، ومعناه الاستقبال، لأن الإخبار به صدق، فكأنه قد وقع. وقال ابن عطية : يحتمل معنيين : أحدهما : أنه تناهي علمهم، كما تقول : أدرك النبات وغيره، أي تناهى وتتابع علمهم بالآخرة إلى أن يعرفوا لها مقداراً فيؤمنوا، وإنما لهم ظنون كاذبة ؛ أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتاً، وتكون في بمعنى الباء متعلقة بعلمهم، وقد تعدّى العلم بالباء، كما تقول : علمي بزيد كذا، ويسوغ حمل هذه القراءة على معنى التوقيف الاستفهام، وجاء إنكاراً لأنهم لم يدركوا شيئاً نافعاً. والثاني : أن أدرك : بمعنى يدرك، أي
٩٢
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٨٠
علمهم في الآخرة يدرك وقت القيامة، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها، وأما في الدنيا فلا. وهذا تأويل ابن عباس، ونحا إليه الزجاج، وفي على بابها من الظرفية متعلقة بتدارك. انتهى، وفيه بعض تلخيص وزيادة. وقال الزمخشري : هو على وجهين : أحدهما : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون، وذلك قوله :﴿بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ﴾، يريد المشركين ممن في السموات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسل فعلهم إلى الجميع، كما يقال : بنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله ناس منهم. والوجه الثاني : أن وصفهم باستحكامه وتكامله تهكم بهم، كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك، على سبيل الهزء به، وذلك حيث شكوا وعموا عن إتيانه الذي هو طريق إلى علم مشكوك، فضلاً عن أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته. وفي ادرك علمهم وادارك وجه آخر، وهو أن يكون ادرك بمعنى انتهى وفني، من قولهم : أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم. وقد فسر الحسن باضمحل علمهم وتدارك، من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك. انتهى.