﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ﴾ : أي في هذا الجعل، ﴿لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ : لما كان لا ينتفع بالفكر في هذه الآيات إلا المؤمنون، خصوا بالذكر، وإن كانت آيات لهم ولغيرهم. ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ﴾ : تقدم القول في الصور في سورة الأنعام، وهذه النفخة هي نفخة الفزع. وروي أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور. وقيل : نفختان، جعلوا الفزع والصعق نفخة واحدة، واستدلوا بقوله :﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ﴾، ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله. وقال صاحب الغنيان :﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ﴾ للبعث من القبور والحشر، وعبر هنا بالماضي في قوله : ، وإن كان لم يقع إشعاراً بصحة وقوعه، وأنه كائن لا محالة، وهذه فائدة وضع الماضي موضع المستقبل، كقوله تعالى :﴿الْقِيَـامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾، بعد قوله :﴿يَقْدُمُ قَوْمَه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٨٠
﴿إِلا مَن شَآءَ اللَّهُ﴾ : أي فلا ينالهم هذا الفزع لتثبيت الله قلبه. فقال مقاتل : هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت عليهم السلام. وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم، فهم حريون أن لا ينالهم هذا. وقال الضحاك : الحور العين، وخزنة النار، وحملة العرش. وعن جابر : منهم موسى، لأنه صعق مرة. وقال أبو هريرة : هم الشهداء، ورواه أبو هريرة حديثاً، وهو :"أنهم هم الشهداء عند ربهم يرزقون"، وهو قول ابن جبير، قال : هم
٩٩
الشهداء متقلدو السيوف حول العرش. وقيل : هم المؤمنون لقوله :﴿وَهُم مِّن فَزَعٍ يومئذ ءَامِنُونَ﴾. قال بعض العلماء : ولم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل. قال القرطبي : خفي عليه حديث أبي هريرة، وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي، فيعول عليه في التعيين، وغيره اجتهاد. وهذا النفخ هو حقيقة، إما في القرن، وإما في الصور، وهو قول الأكثرين. وقيل : يجوز أن يكون تمثيلاً لدعاء الموتى، فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش عند سماع الصوت، فيكون ذلك مجازاً. والأول قول الأكثرين، وهو الصواب، لكثرة ورود النفخ في الصور في القرآن وفي الحديث الصحيح. وقيل : ففزع، ليس من الفزع بمعنى الخوف، وإنما معناه : أجاب وأسرع إلى البقاء.
﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ﴾ : المضاف إليه كل محذوف تقديره : وكلهم. وقرأ الجمهور : آتوه، اسم فاعل ؛ وعبد الله ؛ وحمزة، وحفص : أتوه، فعلاً ماضياً، وفي القراءتين روعي معنى كل من الجمع، وقتادة : أتاه، فعلاً ماضياً مسنداً الضمير كل على لفظها، وجمع داخرين على معناها. وقرأ الحسن، والأعمش : دخرين، بغير ألف. قيل : ومعنى آتوه : حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية، ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له. ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ﴾ : هو من رؤية العين تحسبها حال من فاعل ترى، أو من الجبال. وجامدة، من جمد مكانه إذا لم يبرح منه، وهذه الحال للجبال عقيب النفخ في الصور، وهي أول أحوال الجبال، تموج وتسير، ثم ينسفها الله فتصير كالعهن، ثم تكون هباء منبثاً في آخر الأمر. ﴿وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ : جملة حالية، أي تحسبها في رأي العين ثابتة مقيمة في أماكنها وهي سائرة، وتشبيه مرورها بمر السحاب. قيل : في كونها تمر مراً حثيثاً، كما مر السحاب، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد، إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها، كما قال النابغة الجعدي في صفة جيش :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٨٠
نار عن مثل الطود تحسب أنهموقوف لحاج والركاب تهملج
وقيل : شبه مرورها بمر السحاب في كونها تسير سيراً وسطاً، كما قال الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتهامر السحابة لا ريث ولا عجل
وحسبان الرائي الجبال جامدة مع مرورها، قيل : لهول ذلك اليوم، فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها ليست بجامدة. وقال أبو عبد الله الرازي : الوجه في حسبانهم أنها جامدة، أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت، ظن الناظر إليها أنها واقفة، وهي تمر مراً حثيثاً. انتهى. وقيل : وصف تعالى الجبال بصفات مختلفة، ترجع إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه. فأول الصفات : ارتجاجها، ثم صيرورتها كالعهن المنفوش، ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن، ثم نسفها، وهي مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها، والأرض غير بارزة، وبالنسف برزت، ونفسها بإرسال الرياح عليها، ثم تطييرها بالريح في الهواء كأنها غبار، ثم كونها سراباً، فإذا نظرت إلى مواضعها لم تجد فيها منها شيئاً كالسراب. وقال مقاتل : بل تقع على الأرض فتسوى بها.
وانتصب ﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾ على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها، فالعامل فيه مضمر من لفظه. وقال الزمخشري :﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾ من المصادر المؤكدة كقوله :﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ و﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾، إلا أن مؤكده
١٠٠