وقال الزمخشري :﴿أَفَسِحْرٌ هَاذَآ﴾، يعني كنتم تقولون للوحي : هذا سحر.. ﴿أَفَسِحْرٌ هَاذَآ﴾، يريد : أهذا المصداق أيضاً سحر ؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى. ﴿أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ﴾ : كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه، كما كنتم عمياً عن الخبر ؟ وهذا تقريع وتهكم. فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله :﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ؟ قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة، وبأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير. فأما الصبر على العذاب، الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع. انتهى. وسحر : خبر مقدم، وهذا : مبتدأ، وسواء : مبتدأ، والخبر محذوف، أي الصبر والجزع. وقال أبو البقاء : خبر مبتدأ محذوف، أي صبركم وتركه سواء.
ولما ذكر حال الكفار، ذكر حال المؤمنين، ليقع الترهيب والترغيب، وهو إخبار عن ما يؤول إليه حال المؤمنين، أخبروا بذلك. ويجوز أن يكون من جملة القول للكفار، إذ ذلك زيادة في غمهم وتنكيد لهم، والأول أظهر. وقرأ الجمهور : فكهين، نصباً على الحال، والخبر في ﴿جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾. وقرأ خالد : بالرفع على أنه خبر إن، وفي جنات متعلق به. ومن أجاز تعداد الخبر، أجاز أن يكونا خبرين. ﴿وَوَقَا هُمْ﴾ معطوف على ﴿فِي جَنَّاتِ﴾، إذ المعنى : استقروا في جنات، أو على ﴿ءَاتَا هُمْ﴾، وما مصدرية، أي فكهين بإيتائهم ربهم النعيم ووقايتهم عذاب الجحيم. وجوز أن تكون الواو في ووقاهم واو الحال، ومن شرط قد في الماضي، قال : هي هنا مضمرة، أي وقد وقاهم. وقرأ أبو حيوة : ووقاهم، بتشديد القاف. ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ على إضمار القول : أي يقال لهم :﴿هَنِيائَا ﴾. قال الزمخشري : أكلاً وشرباً هنيئاً، أو طعاماً وشراباً هنيئاً، وهو الذي لا تنغيص فيه. ويجوز أن يكون مثله في قوله :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٤
هنيئاً مريئاً غير داء مخامرلعزة من أعراضنا ما استحلت
أعني : صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل، مرتفعاً به ما استحلت، كما يرتفع بالفعل، كأنه قيل : هنا عزة المستحل من أعراضنا. وكذلك معنى هنيئاً ههنا : هنأكم الأكل والشرب، أو هنأكم ما كنتم تعملون، أي جزاء ما كنتم تعملون، والباء مزيدة كما في :﴿كَفَى بِاللَّهِ﴾، والباء متعلقة بكلوا واشربوا، إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. انتهى. وتقدم لنا الكلام مشبعاً على ﴿هَنِيائَا ﴾ في سورة النساء. وأما تجويزه زيادة الباء، فليست زيادتها مقيسة في الفاعل، إلا في فاعل كفى على خلاف فيها ؛ فتجويز زيادتها في الفاعل هنا لا يسوغ. وأما قوله : إن الباء تتعلق بكلوا واشربوا، فلا يصح إلا على الأعمال، فهي تتعلق بأحدهما. وانتصب ﴿مُتَّكِاِينَ﴾ على الحال. قال أبو البقاء : من الضمير في ﴿كُلُوا ﴾، أو من الضمير في ﴿وَوَقَا هُمْ﴾، أو من الضمير في ﴿ءَاتَا هُمْ﴾، أو من الضمير في ﴿فَاكِهِينَ﴾، أو من الضمير في الظرف. انتهى. والظاهر أنه حال من الظرف، وهو قوله :﴿فِي جَنَّاتِ﴾. وقرأ أبو السمال : على سرر، بفتح الراء، وهي لغة لكلب في المضعف، فراراً من توالي ضمتين مع التضعيف. وقرأ عكرمة :﴿بِحُورٍ عِينٍ﴾ على الإضافة.
والظاهر أن قوله :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ مبتدأ، وخبره. وأجاز أبو البقاء أن يكون ﴿مُفَصَّلا وَالَّذِينَ﴾ في موضع نصب على تقدير : وأكرمنا الذين آمنوا. ومعنى الآية، قال الجمهور وابن عباس وابن جبير وغيرهما : أن المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يكونون في مراتب آبائهم، وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال مثلهم كرامة لآبائهم. فبإيمان متعلق بقوله :﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ﴾. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :"إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته وإن كان لم يبلغها بعمله ليقر بها عينه" ثم قرأ الآية. وقال ابن عباس والضحاك : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار، وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين. انتهى. فيكون بإيمان متعلقاً بألحقنا، أي ألحقنا
١٤٨
بسبب الإيمان الآباء بهم ذرياتهم، وهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف، فهم في الجنة مع آبائهم، وإذا كان أبناء الكفار، الذين لم يبلغوا حدّ التكليف في الجنة، كما ثبت في صحيح البخاري، فأحرى أولاد المؤمنين. وقال الحسن : الآية في الكبار من الذرية. وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار. وعن ابن عباس أيضاً : الذين آمنوا : المهاجرون والأنصار، والذرية : التابعون. وعنه أيضاً : إن كان الآباء أرفع درجة، رفع الله الأبناء إليهم، فالآباء داخلون في اسم الذرية. وقال النخعي : المعنى : أعطيناهم أجورهم من غير نقص، وجعلنا ذريتهم كذلك.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٤


الصفحة التالية
Icon