﴿فَأَوْحَى ﴾ : أي الله، ﴿إِلَى عَبْدِهِ﴾ : أي الرسول صلى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. وقيل :﴿إِلَى عَبْدِهِ﴾ جبريل، ﴿مَآ أَوْحَى ﴾ : إبهام على جهة التعظيم والتفخيم، والذي عرف من ذلك فرض الصلوات. وقال الحسن : فأوحى جبريل إلى عبد الله، محمد صلى الله عليه وسلّم، ما أوحى، كالأول في الإبهام. وقال ابن زيد : فأوحى جبريل إلى عبد الله، محمد صلى الله عليه وسلّم، ما أوحاه الله تعالى إلى جبريل عليه السلام. وقال الزمخشري :﴿مَآ أَوْحَى ﴾ : أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. ﴿مَا كَذَبَ﴾ فؤاد محمد صلى الله عليه وسلّم ما رآه ببصره من صورة جبريل : أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك، يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق. انتهى. وقرأ الجمهور : ما كذب مخففاً، على معنى : لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلّم الشيء الذي رآه، بل صدقه وتحققه نظراً، وكذب يتعدى. وقال ابن عباس وأبو صالح : رأى محمد صلى الله عليه وسلّم الله تعالى بفؤاده. وقيل : ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه، بل صدقه وتحققه، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى.
وعن ابن عباس وعكرمة وكعب الأحبار : أن محمداً صلى الله عليه وسلّم رأى ربه بعيني رأسه، وأبت ذلك عائشة رضي الله تعالى عنها، وقالت : أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن هذه الآيات، فقال لي :"هو جبريل عليه السلام فيها كلها". وقال الحسن : المعنى ما رأى من مقدورات الله تعالى وملكوته. وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلّم : هل رأيت ربك ؟ فقال :"نورانى أراه". وحديث عائشة قاطع لكل تأويل في اللفظ، لأن قول غيرها إنما هو
١٥٨
منتزع من ألفاظ القرآن، وليست نصاً في الرؤية بالبصر، بلا ولا بغيره. وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر : ما كذب مشدداً. وقال كعب الأحبار : إن الله قسم الرؤية والكلام بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد صلى الله عليه وسلّم مرتين. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لقد وقف شعري من سماع هذا، وقرأت :﴿لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الابْصَـارَ﴾، وذهبت هي وابن مسعود وقتادة والجمهور إلى أن المرئي مرتين هو جبريل، مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٥٣
وقرأ الجمهور :﴿أَفَتُمَـارُونَهُ﴾ : أي أتجادلونه على شيء رآه ببصره وأبصره، وعدى بعلى لما في الجدال من المغالبة، وجاء يرى بصيغة المضارع، وإن كانت الرؤية قد مضت، إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد. وقرأ علي وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي : بفتح التاء وسكون الميم، مضارع مريت : أي جحدت، يقال : مريته حقه، إذا جحدته، قال الشاعر :
لثن سخرت أخا صدق ومكرمةلقد مريت أخاً ما كان يمريكا
وعدى بعلى على معنى التضمين. وكانت قريش حين أخبرهم صلى الله عليه وسلّم بأمره في الإسراء، كذبوا واستخفوا، حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر غيرهم، وغير ذلك مما هو مستقصى في حديث الإسراء. وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه، والشعبي فيما ذكر شعبة : بضم التاء وسكون الميم، مضارع أمريت. قال أبو حاتم : وهو غلط. ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ﴾ : الضمير المنصوب عائد على جبريل عليه السلام، قال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع. ﴿نَزْلَةً أُخْرَى ﴾ : أي مرة أخرى، أي نزل عليه جبريل عليه السلام مرة أخرى في في صورة نفسه، فرآه عليها، وذلك ليلة المعراج. وأخرى تقتضي نزلة سابقة، وهي المفهومة من قوله :﴿ثُمَّ دَنَا﴾ جبريل، ﴿فَتَدَلَّى ﴾ : وهو الهبوط والنزول من علو. وقال ابن عباس وكعب الأحبار : الضمير عائد على الله، على ما سبق من قولهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى ربه مرتين. وانتصب نزلة، قال الزمخشري : نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل. وقال الحوفي وابن عطية : مصدر في موضع الحال. وقال أبو البقاء : مصدر، أي مرة أخرى، أو رؤية أخرى.
﴿عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ﴾، قيل : هي شجرة نبق في السماء السابعة. وقيل : في السماء السادسة، ثمرها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيلة. تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله تعالى في كتابه، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها. والمنتهى موضع الانتهاء، لأنه ينتهي إليها علم كل عالم، ولا يعلم ما وراءها صعداً إلا الله تعالى عز وجل ؛ أو ينتهي إليها كل من مات على الإيمان من كل جيل ؛ أو ينتهي إليها ما نزل من أمر الله تعالى، ولا تتجاوزها ملائكة العلو وما صعد من الأرض، ولا تتجاوزها ملائكة السفل ؛ أو تنتهي إليها أرواح الشهداء ؛ أو كأنها في منتهى الجنة وآخرها ؛ أو تنتهي إليها الملائكة والأنبياء ويقفون عندها ؛ أو ينتهي إليها علم الأنبياء ويغرب علمهم عن ما وراءها ؛ أو تنتهي إليها الأعمال ؛ أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة، أقوال تسعة.