﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ﴾ : أي بل ألم يخبر ؟ ﴿بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى ﴾، وهي التوراة. ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ : أي وفي صحف إبراهيم التي أنزلت عليه، وخص هذين النبيين عليهما أفضل الصلاة والسلام. قيل : لأنه ما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بأبيه وابنه وعمه وخاله، والزوج بامرأته، والعبد بسيده. فأول من خالفهم إبراهيم، ومن شريعة إبراهيم إلى شريعة موسى صلى الله عليه وسلّم عليهما، كانوا لا يأخذون الرجل بجريمة غيره. ﴿الَّذِى وَفَّى ﴾، قرأ الجمهور : وفي بتشديد الفاء. وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي : بتخفيفها، ولم يذكر متعلق وفي ليتناول كل ما يصلح أن يكون متعلقاً له، كتبليغ الرسالة والاستقلال بأعباء الرسالة، والصبر على ذبح ولده، وعلى فراق اسماعيل وأمه، وعلى نار نمروذ وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه. وكان يمشي كل يوم فرسخاً يرتاد ضيفاً، فإن وافقه أكرمه، وإلا نوى الصوم. وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفى به. وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً. وقال ابن عباس والربيع : وفي طاعة الله في أمر ذبح ابنه. وقال الحسن وقتادة : وفي بتبليغ الرسالة والمجاهدة في ذات الله. وقال عكرمة : وفي هذه العشر الآيات :﴿أَلا تَزِرُ﴾ فما بعدها. وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : وفي ما افترض عليه من الطاعة على وجهها، وكملت له شعب الإيمان والإسلام، فأعطاه الله براءته من النار. وقال ابن عباس أيضاً : وفي شرائع الإسلام ثلاثين سهماً، يعني : عشرة في براءة التائبون الخ، وعشرة في قد أفلح، وعشرة في الأحزاب إن المسلمين. وقال أبو أمامة : ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وفي أربع صلوات في كل يوم. وقال أبو بكر الوراق : قام بشرط ما ادّعى، وذلك أن الله تعالى قال له : أسلم، قال : أسلمت لرب العالمين، فطالبه بصحة دعواه، فابتلاه في ما له وولده ونفسه، فوجده وافياً. انتهى، وللمفسرين أقوال غير هذه. وينبغي أن تكون هذه الأقوال أمثلة لما وفي، لا على سبيل التعيين، وأن هي المخففة من الثقيلة، وهي بدل من ما في قوله :﴿بِمَا فِى صُحُفِ﴾، أو في موضع رفع، كأن قائلاً قال : ما في صحفهما، فقيل :﴿أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾، وتقدم شرح ﴿أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٥٣
﴿وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى ﴾ : الظاهر أن الإنسان يشمل
١٦٧
المؤمن والكافر، وأن الحصر في السعي، فليس له سعي غيره، وقال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمّة فلها سعي غيرها، يدل عليه حديث سعد بن عبادة : هل لأمي، إن تطوعت عنها ؟ قال : نعم. وقال الربيع : الإنسان هنا الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره. وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله :﴿وَاللَّهُ يُضَـاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾، فقال : ليس له بالعدل إلا ما سعى، وله بالفضل ما شاء الله، فقبل عبد الله رأس الحسين. وما روي عن ابن عباس أنها منسوخة لا يصح، لأنه خبر لم يتضمن تكليفاً ؛ وعند الجمهور : إنها محكمة. قال ابن عطية : والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله :﴿لِلانسَـانِ﴾. فإذا حققت الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا، لم تجده إلا سعيه، وما تم بعد من رحمة بشفاعة، أو رعاية أب صالح، أو ابن صالح، أو تضعيف حسنات، أو تعمد بفضل ورحمة دون هذا كله، فليس هو للإنسان، ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو حقيقة. واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته ببدن أو مال، وفرق بعض العلماء بين البدن والمال. انتهى.
والسعي : التكسب، ويرى مبني للمفعول، أي سوف يراه حاضراً يوم القيامة. وفي عرض الأعمال تشريف للمحسن وتوبيخ للمسيء، والضمير المرفوع في يجزاه عائد على الإنسان، والمنصوب عائد على السعي، والجزاء مصدر. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسره بقوله :﴿الْجَزَآءَ الاوْفَى ﴾. وإذا كان تفسيراً للمصدر المنصوب في يجزاه، فعلى ماذا انتصابه ؟ وأما إذا كان بدلاً، فهو من باب بدل الظاهر من الضمير الذي يفسره الظاهر، وهي مسألة خلاف، والصحيح المنع. وقرأ الجمهور :﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ﴾ وما بعدها من ﴿وَأَنَّهُا﴾، وأن بفتح الهمزة عطفاً على ما قبلها. وقرأ أبو السمال : بالكسر فيهن، وفي قوله :﴿الاوْفَى ﴾ وعيد للكافر ووعد للمؤمن، ومنتهى الشيء : غايته وما يصل إليه، أي إلى حساب ربك والحشر لأجله، كما قال :﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ : أي إلى جزائه وحسابه، أو إلى ثوابه من الجنة وعقابه من النار ؛ وهذا التفسير المناسب لما قبله في الآية. وعن أبي، عن النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله تعالى :﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾، لا فكرة في الرب. وروى أنس عنه صلى الله عليه وسلّم :"إذا ذكر الرب فانتهوا".


الصفحة التالية
Icon