ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلّم فقال :﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أي أعرض عنهم، فإن الإنذار لا يجدي فيهم. ثم ذكر شيئاً من أحوال الآخرة وما يؤولون إليه، إذ ذاك متعلق باقتراب الساعة، فقال :﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾، والناصب ليوم اذكر مضمرة، قاله الرماني، أو يخرجون. وقال الحسن : المعنى : فتول عنهم إلى يوم، وهذا ضعيف من جهة اللفظ ومن جهة المعنى. أما من جهة اللفظ فحذف إلى، وأما من جهة المعنى فإن توليه عنهم ليس مغياً بيوم يدع الداع. وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله :﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾، ويكون ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ اعتراضاً، وأن يكون منصوباً بقوله :﴿يَقُولُ الْكَـافِرُونَ﴾، ومنصوباً على إضمار انتظر، ومنصوباً بقوله :﴿فَتَوَلَّ﴾، وهذا ضعيف جدّاً، ومنصوباً بمستقر، وهو بعيد أيضاً. وحذفت الواو من يدع في الرسم اتباعاً للنطق، والياء من الداع تخفيفاً أجريت أل مجرى ما عاقبها، وهو التنوين. فكما تحذف معه حذفت معها، والداع هو إسرافيل، أو جبرائيل، أو ملك غيرهما موكل بذلك، أقوال. وقرأ الجمهور :﴿نُّكُرٍ﴾ بضم الكاف، وهو صفة على فعل، وهو قليل في الصفات، ومنه رجل شلل : أي خفيف في الحاجة، وناقة أجد، ومشية سجح، وروضة أنف. وقرأ الحسن وابن كثير : وشبل بإسكان الكاف، كما قالوا : شغل وشغل، وعسر وعسر. وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي : نكر فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول، أي جهل فنكر. وقال الخليل : النكر نعت للأمر الشديد، والوجل الداهية، أي تنكره النفوس لأنها لم تعهد مثله، وهو يوم القيامة. قال مالك بن عوف النضري :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٧١
أقدم محاج أنه يوم نكرمثلي على مثلك يحمي ويكر
وقرأ قتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والجمهور : خشعاً جمع تكسير ؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي : خاشعاً بالإفراد. وقرأ أبيّ وابن مسعود : خاشعة، وجمع التكسير أكثر في كلام العرب. وقال الفراء وأبو عبيدة : كله جائز. انتهى، ومثال جمع التكسير قول الشاعر :
بمطرد لذن صحاح كعربهوذي رونق عضب يقد الوانسا
ومثال الإفراد قوله :
ورجال حسن أو جههممن أياد بن نزار بن معد
وقال آخر :
ترمي الفجاج به الركبان معترضاً
أعناق بزلها مرخى لها الجدل
وانتصب خشعاً وخاشعا وخاشعة على الحال من ضمير يخرجون، والعامل فيه يخرجون، لأنه فعل متصرف، وفي هذا دليل على بطلان مذهب الجرمى، لأنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفاً. وقد قالت العرب : شتى تؤب الحلبة، فشتى حال، وقد تقدمت على عاملها وهو تؤب، لأنه فعل متصرف، وقال الشاعر :
سريعاً يهون الصعب عند أولي النهيإذا برجاء صادق قابلوه البأسا
فسريعاً حال، وقد تقدمت على عاملها، وهو يهون. وقيل : هو حال من الضمير المجرور في عنهم من قوله :﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ وقيل : هو مفعول بيدع، أي قوماً خشعاً، أو فريقاً خشعاً، وفيه بعد. ومن أفرد خاشعاً وذكر، فعلى تقدير تخشع أبصارهم ؛ ومن قرأ خاشعة وأنث، فعلى تقدير تخشع ؛ ومن قرأ خشعاً جمع تكسير، فلأن الجمع موافق لما بعده، وهو أبصارهم، وموافق للضمير الذي هو صاحب الحال في يخرجون، وهو نظير قولهم : مررت برجال كرام آباؤهم. وقال الزمخشري : وخشعاً على يخشعن أبصارهم، وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث، وهم طيء. انتهى. ولا يجري جمع التكسير مجرى جمع السلامة، فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة.
وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب، فكيف يكون
١٧٥
أكثر، ويكون على تلك اللغة النادرة القليلة ؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفراد مذكراً ومؤنثاً وجمع التكسير، قال : لأن الصفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها جميع ذلك، والجمع موافق للفظها، فكان أشبه. انتهى. وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمع مجموعاً بالواو والنون نحو : مررت بقوم كريمين آباؤهم. والزمخشري قاس جمع التكسير على هذا الجمع السالم، وهو قياس فاسد، ويزده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد، كما ذكرناه عن سيبويه، وكما دل عليه كلام الفراء ؛ وجوز أن يكون في خشعاً ضمير، وأبصارهم بدل منه. وقرىء : خشع أبصارهم، وهي جملة في موضع الحال، وخشع خبر مقدم، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة، وهي في العيون أظهر منها في سائر الجوارح ؛ وكذلك أفعال النفس من ذلة وعزة وحياء وصلف وخوف وغير ذلك.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٧١