ولما ذكر تعالى ما أنعم به على الإنسان من تعليمه البيان، ذكر ما امتن به من وجود الشمس والقمر، وما فيهما من المنافع العظيمة للإنسان، إذ هما يجريان على حساب معلوم وتقدير سوي في بروجهما ومنازلهما. والحسبان مصدر كالغفران، وهو بمعنى الحساب، قاله قتادة. وقال الضحاك وأبو عبيدة : جمع حساب، كشهاب وشهبان. قال ابن عباس وأبو مالك وقتادة : لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج، وغير ذلك حسبانات شتى. وقال ابن زيد : لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً يريد من مقادير الزمان. وقال مجاهد : الحسبان : الفلك المستدير، شبهه بحسبان الرحى، وهو العود المستدير الذي باستدارته تستدير المطحنة. وارتفع الشمس على الابتداء وخبره بحسبان، فأما على حذف، أي جري الشمس والقمر كائن بحسبان. وقيل : الخبر محذوف، أي يجريان بحسبان، وبحسبان متعلق بيجريان، وعلى قول مجاهد :
١٨٨
تكون الباء في بحسبان ظرفية، لأن الحسبان عنده الفلك.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٤
ولما ذكر تعالى ما أنعم به من منفعة الشمس والقمر، وكان ذلك من الآيات العلوية، ذكر في مقابلتهما من الآثار السفلية النجم والشجر، إذ كانا رزقاً للإنسان، وأخبر أنهما جاريان على ما أراد الله بهما، من تسخيرهما وكينونتهما على ما اقتضته حكمته تعالى. ولما ذكر ما به حياة الأرواح من تعليم القرآن، ذكر ما به حياة الأشباح من النبات الذي له ساق، وكان تقديم النجم، وهو مالا ساق له، لأنه أصل القوت، والذي له ساق ثمره يتفكه به غالباً. والظاهر أن النجم هو الذي شرحناه، ويدل عليه اقترانه بالشجر. وقال مجاهد وقتادة والحسن : النجم : اسم الجنس من نجوم السماء. وسجودهما، قال مجاهد والحسن : ذلك في النجم بالغروب ونحوه، وفي الشجر بالظل واستدارته. وقال مجاهد أيضاً : والسجود تجوز، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل. والجمل الأول فيها ضمير يربطها بالمبتدأ، وأما في هاتين الجملتين فاكتفى بالوصل المعنوي عن الوصل اللفظي، إذ معلوم أن الحسبان هو حسبانه، وأن السجود له لا لغيره، فكأنه قيل : بحسبانه ويسجدان له. ولما أوردت هذه الجمل مورد تعديد النعم، رد الكلام إلى العطف في وصل ما يناسب وصله، والتناسب الذي بين هاتين الجملتين ظاهر، لأن الشمس والقمر علويان، والنجم والشجر سفليان.
﴿وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا﴾ : أي خلقها مرفوعة، حيث جعلها مصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين ينزلون بالوحي على أنبيائه، ونبه بذلك على عظم شأنه وملكه. وقرأ الجمهور :﴿وَالسَّمَآءَ﴾، بالنصب على الاشتغال، روعي مشاكلة الجملة التي تليه وهي ﴿يَسْجُدَانِ﴾. وقرأ أبو السمال : والسماء بالرفع، راعى مشاكلة الجملة الابتدائية. وقرأ الجمهور :﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾، فعلاً ماضياً ناصباً الميزان، أي أقره وأثبته. وقرأ إبراهيم : ووضع الميزان، بالخفض وإسكان الضاد. والظاهر أنه كل ما يوزن به الأشياء وتعرف مقاديرها، وإن اختلفت الآلات، قال معناه ابن عباس والحسن وقتادة، جعله تعالى حاكماً بالسوية في الأخذ والإعطاء. وقال مجاهد والطبري والأكثرون : الميزان : العدل، وتكون الآلات من بعض ما يندرج في العدل. بدأ أولاً بالعلم، فذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن ؛ ثم ذكر ما به التعديل في الأمور، وهو الميزان، كقوله :﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـابَ وَالْمِيزَانَ﴾، ليعلموا الكتاب ويفعلوا ما يأمرهم به الكتاب. ﴿أَلا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ﴾ : أي لأن لا تطغوا، فتطغوا منصوب بأن. وقال الزمخشري : أو هي أن المفسرة. وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون أن مفسرة، فيكون تطغوا جزماً بالنهي. انتهى، ولا يجوز ما قالاه من أن أن مفسرة، لأنه فات أحد شرطيها، وهو أن يكون ما قبلها جملة فيها معنى القول. ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ جملة ليس فيها معنى القول. والطغيان في الميزان هو أن يكون بالتعمد، وأما مالا يقدر عليه من التحرير بالميزان فمعفو عنه.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٤
ولما كانت التسوية مطلوبة جداً، أمر الله تعالى فقال :﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ﴾. وقرأ الجمهور :﴿وَلا تُخْسِرُوا ﴾، من أخسر : أي أفسد ونقص، كقوله :﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ ؛ أي ينقصون. وبلال بن أبي بردة وزيد بن علي : تخسر بفتح التاء، يقال : خسر يخسر، وأخسر يخسر بمعنى واحد، كجبر وأجبر. وحكى ابن جني وصاحب اللوامح، عن بلال : فتح التاء والسين مضارع خسر بكسر السين، وخرجها الزمخشري على أن يكون التقدير : في الميزان، فحذف الجار ونصب، ولا يحتاج إلى هذا التخريج. ألا ترى أن خسر جاء متعدياً كقوله تعالى :﴿خَسِرُوا أَنفُسَهُم﴾، و﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاخِرَةَ﴾ ؟ وقرىء أيضاً : تخسروا، بفتح التاء وضم السين. لما منع من الزيادة، وهي الطغيان، نهى عن الخسران الذي هو نقصان، وكرر لفظ الميزان، تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه.


الصفحة التالية
Icon