ولما ذكر السماء، ذكر مقابلتها فقال :﴿وَالارْضَ وَضَعَهَا لِلانَامِ﴾ : أي خفضها
١٨٩
مدحوة على الماء لينتفع بها. وقرأ الجمهور : والأرض بالنصب ؛ وأبو السمال : بالرفع. والأنام، قال ابن عباس : بنو آدم فقط. وقال أيضاً هو وقتادة وابن زيد والشعبي : الحيوان كله. وقال الحسن : الثقلان، الجن والإنس. ﴿فِيهَا فَـاكِهَةٌ﴾ : ضروب مما يتفكه به. وبدأ بقوله :﴿فَـاكِهَةٍ﴾، إذ هو من باب الابتداء بالأدنى والترقي إلى الأعلى، ونكر لفظها، لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما يذكر بعدها. ثم ثنى بالنخل، فذكر الأصل ولم يذكر ثمرتها، وهو الثمر لكثرة الانتفاع بها من ليف وسعف وجريد وجذوع وجمار وثمر. ثم أتى ثالثاً بالحب الذي هو قوام عيش الإنسان في أكثر الأقاليم، وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه، ووصفه بقوله :﴿ذُو الْعَصْفِ﴾ تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم من الحب، ويقوت بهائمهم من ورقه الذي هو التبن. وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم، وبينهما النخل والحب، ليحصل ما به يتفكه، وما به يتقوت، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة. وذكر النخل باسمها، والفاكهة دون شجرها، لعظم المنفعة بالنخل من جهات متعددة، وشجرة الفاكهة بالنسبة إلى ثمرتها حقيرة، فنص على ما يعظم به الانتفاع من شجرة النخل ومن الفاكهة دون شجرتها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٤
وقرأ الجمهور :﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ﴾، برفع الثلاثة عطفاً على المرفوع قبله ؛ وابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بنصب الثلاثة، أي وخلق الحب. وجوزوا أن يكون ﴿وَالرَّيْحَانُ﴾ حالة الرفع وحالة النصب على حذف مضاف، أي وذو الريحان حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ؛ وحمزة والكسائي والأصمعي، عن أبي عمرو : والريحان بالجر، والمعنى : والحب ذو العصف الذي هو علف البهائم، والريحان الذي هو مطعم الناس، ويبعد دخول المشموم في قراءة الجر، وريحان من ذوات الواو. وأجاز أبو علي أن يكون اسماً، ووضع موضع المصدر، وأن يكون مصدراً على وزن فعلان كاللبان. وأبدلت الواو ياء، كما أبدلوا الياء واواً في أشاوى، أو مصدراً شاذاً في المعتل، كما شذ كبنونة وبينونة، فأصله ريوحان، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصار ريحان، ثم حذفت عين الكلمة، كما قالوا : ميت وهين.
ولما عدد تعالى نعمه، خاطب الثقلين بقوله :﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾، أي أن نعمه كثيرة لا تحصى، فبأيها تكذبان ؟ أي من هذه نعمه لا يمكن أن يكذب بها. وكان هذا الخطاب للثقلين، لأنهما داخلان في الأنام على أصح الأقوال. ولقوله :﴿خَلَقَ الانسَـانَ﴾، و﴿وَخَلَقَ الْجَآنَّ﴾ ؛ ولقوله :﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ﴾، وقد أبعد من جعله خطاباً للذكر والأنثى من بني آدم. وأبعد من هذا قول من قال : إنه خطاب على حد قوله :﴿أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ﴾، ويا حرسيّ اضربا عنقه، يعني أنه خطاب للواحد بصورة الاثنين، فبأي منوناً في جميع السورة، كأنه حذف منه المضاف إليه وأبدل منه ﴿رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ بدل معرفة من نكرة، وآلاء تقدم في الأعراف أنها النعم، واحدها إلى وألا وإلى وألى.
﴿خَلَقَ الانسَـانَ﴾ : لما ذكر العالم الأكبر من السماء والأرض وما أوجد فيها من النعم، ذكر مبدأ من خلقت له هذه النعم، والإنسان هو آدم، وهو قول الجمهور. وقيل : للجنس، وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق من الصلصال. وإذا أريد بالإنسان آدم، فقد جاءت غايات له مختلفة، وذلك بتنقل أصله ؛ فكان أولاً تراباً، ثم طيناً، ثم حمأ مسنوناً، ثم صلصالاً، فناسب أن ينسب خلقه لكل واحد منها. والجان هو أبو الجن، وهو إبليس، قاله الحسن. وقال مجاهد : هو أبو الجن، وليس بإبليس. وقيل : الجان اسم جنس، والمارج : ما اختلط من أصفر وأحمر وأخضر، أو اللهب، أو الخالص، أو الحمرة في طرف النار، أو المختلط بسواد، أو المضطرب بلا دخان، أقوال، ومن الأولى لابتداء الغاية، والثانية في ﴿مِّن نَّارٍ﴾ للتبعيض. وقيل للبيان والتكرار في هذه الفواصل : للتأكيد والتنبيه والتحريك، وهي موجودة في مواضع من القرآن. وذهب قوم منهم ابن قتيبة إلى أن هذا التكرار إنما هو لاختلاف النعم، فكرر
١٩٠
التوقيف في كل واحد منها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٤


الصفحة التالية
Icon