وقال الزمخشري : في قراءة الحسن، ولا يصح أن تكون اللام لام قسم لأمرين، أحدهما : أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيح ؛ والثاني : أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال. انتهى. أما الأمر الأول ففيه خلاف، فالذي قاله قول البصريين، وأما الكوفيون فيختارون ذلك، ولكن يجيزون تعاقبهما، فيجيزون لأضربن زيداً، واضربن عمراً. وأما الثاني فصحيح، لكنه هو الذي رجح عندنا أن تكون اللام في لا أقسم لام القسم، وأقسم فعل حال، والقسم قد يكون جواباً للقسم ؛ كما قال تعالى :﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلا الْحُسْنَى ﴾. فاللام في ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ﴾ جواب قسم، وهو قسم، لكنه لما لم يكن حلفهم حالاً، بل مستقبلاً، لزمت النون، وهي مخلصة المضارع للاستقبال. وقرأ الجمهور :﴿بِمَوَاقِعِ﴾ جمعاً ؛ وعمر وعبد الله وابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي :
٢١٣
بموقع مفرداً، مراداً به الجمع. قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم : هي نجوم القرآن التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ويؤيد هذا القول قوله :﴿إِنَّه لَقُرْءَانٌ﴾، فعاد الضمير على ما يفهم من قوله :﴿بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾، أي نجوم القرآن. وقيل : النجوم : الكواكب ومواقعها. قال مجاهد وأبو عبيدة : عند طلوعها وغروبها. وقال قتادة : مواقعها : مواضعها من السماء. وقال الحسن : مواقعها عند الانكدار يوم القيامة. وقيل : عند الانفضاض أثر العفاري، ومن تأول النجوم على أنها الكواكب، جعل الضمير في إنه يفسره سياق الكلام، كقوله :﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٠٧
وفي إقسامه تعالى بمواقع النجوم سر في تعظيم ذلك لا نعلمه نحن، وقد أعظم ذلك تعالى فقال :﴿وَإِنَّه لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾. والجملة المقسم عليها قوله :﴿إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ﴾، وفصل بين القسم وجوابه ؛ فالظاهر أنه اعتراض بينهما، وفيه اعتراض بين الصفة والموصوف بقوله :﴿لَّوْ تَعْلَمُونَ﴾. وقال ابن عطية :﴿وَإِنَّه لَقَسَمٌ﴾ تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به، وليس هذا باعتراض بين الكلامين، بل هذا معنى قصد التهمم به، وإنما الاعتراض قوله :﴿لَّوْ تَعْلَمُونَ﴾. انتهى. وكريم : وصف مدح ينفي عنه مالا يليق به. وقال الزمخشري :﴿كَرِيمٍ﴾ : حسن مرضي في جنسه من الكتب، أو نفاع جم المنافع، أو كريم على الله تعالى. ﴿فِى كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ﴾ : أي مصون. قال ابن عباس ومجاهد : الكتاب الذي في السماء. وقال عكرمة : التوراة والإنجيل، كأنه قال : ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة. وقيل :﴿فِى كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ﴾ : أي في مصاحف للمسلمين مصونة من التبديل والتغيير، ولم تكن إذ ذاك مصاحف، فهو إخبار بغيب.
والظاهر أن قوله :﴿لا يَمَسُّهُا إِلا الْمُطَهَّرُونَ﴾ وصف لقرآن كريم، فالمطهرون هم الملائكة. وقيل :﴿لا يَمَسُّهُا﴾ صفة لكتاب مكنون، فإن كان الكتاب هو الذي في السماء، فالمطهرون هم الملائكة أيضاً : أي لا يطلع عليه من سواهم، وكذا على قول عكرمة : هم الملائكة، وإن أريد بكتاب مكنون الصحف، فالمعنى : أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على طهارة من الناس. وإذا كان ﴿الْمُطَهَّرُونَ﴾ هم الملائكة، ﴿لا يَمَسُّهُا﴾ نفي، ويؤيد المنفي ما يمسه على قراءة عبد الله. وإذا عنى بهم المطهرون من الكفر والجنابة، فاحتمل أن يكون نفياً محضاً، ويكون حكمه أنه لا يمسه إلا المطهرون، وإن كان يمسه غير المطهر، كما جاء :﴿أَن تُنابِتُوا شَجَرَهَآ﴾، أي الحكم هذا، وإن كان قد يقع العضد. واحتمل أن يكون نفياً أريد به النهي، فالضمة في السين إعراب. واحتمل أن يكون نهياً فلو فك ظهر الجزم، ولكنه لما أدغم كان مجزوماً في التقدير، والضمة فيه لأجل ضمة الهاء، كما جاء في الحديث :"إنا لم نرده عليك"، إلا إنا جزم، وهو مجزوم، ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا من المجزوم المدغم المتصل بالهاء ضمير المذكر إلا الضم. قال ابن عطية : والقول بأن لا يمسه نهي، قول فيه ضعف، وذلك أنه إذا كان خبراً، فهو في موضع الصفة وقوله بعد ذلك ﴿تَنزِيلٌ﴾ صفة، فإذا جعلناه نهياً، جاء معناه أجنبياً معترضاً بين الصفات، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره. وفي حرف ابن مسعود ما يمسه، وهذا يقوي ما رجحته من الخبر الذي معناه حقه وقدره أن لا يمسه إلا طاهر. انتهى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٠٧


الصفحة التالية
Icon