﴿لا إِلَـاهَ﴾ : جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب لقوله :﴿لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾. لما أخبر بأنه له الملك، أخبر عن ذاته بهذين الوصفين العظيمين اللذين بهما تمام التصرف في الملك، وهو إيجاد ما شاء وإعدام ما شاء، ولذلك أعقب بالقدرة التي بها الإحياء والإماتة. وجوز أن يكون خبر مبتدأ، أي هو يحيي ويميت. وأن يكون حالاً، وذو الحال الضمير في له، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور. ﴿هُوَ الاوَّلُ﴾ : الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة، ﴿وَالاخِرُ﴾ : أي الدائم الذي ليس له نهاية منقضية. وقيل : الأول الذي كان قبل كل شيء، والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء. ﴿وَالظَّـاهِرُ﴾ بالأدلة ونظر العقول في صفته، لكونه غير مدرك بالحواس. وقال أبو بكر الورّاق : الأول بالأزلية، والآخر بالأبدية. وقيل : العالي على كل شيء، الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه ؛ وَالظَّهِرُ وَالْبَطِن : الذي بطن كل شيء، أي علم باطنه. وقال الزمخشري ؛ فإن قلت : فما معنى الواو ؟ قلت : الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ؛ والثانية على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ؛ وأما الوسطى فعل أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين. فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن. جامع الظهور بالأدلة والخفاء، فلا يدرك بالحواس ؛ وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١٦
﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الارْضِ﴾ من المطر والأموات وغير ذلك، ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ من النبات والمعادن وغيرها، ﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ﴾ من الملائكة والرحمة والعذاب وغيره، ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ من الملائكة وصالح الأعمال وسيئها، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ : أي بالعلم والقدرة. قال الثوري : المعني علمه معكم، وهذه آية أجمعت الأمّة على هذا التأويل فيها، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها. وقال بعض العلماء : فيمن يمتنع من تأويل ما لا يمكن حمله على ظاهره، وقد تأول هذه الآية، وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض، لو اتسع عقله لتأول غير هذا مما هو في معناه. وقرأ الجمهور ؛ ﴿تُرْجَعُ﴾، مبنياً للمفعول ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج : مبنياً للفاعل ؛ والأمور عام في جميع الموجودات، أعراضها وجواهرها. وتقدم شرح ما قبل هذا وما بعده، فأغنى عن إعادته.
﴿ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِا وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِا فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِا وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِا ءَايَـاتا بَيِّنَـاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِا وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا لا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَا أُوالَئاِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنا بَعْدُ وَقَـاتَلُوا ا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
لما ذكر تعالى تسبيح العالم له، وما احتوى عليه من الملك، والتصرف، وما وصف به نفسه من الصفات العلا، وختمها بالعالم بخفيات الصدور، أمر تعالى عباده المؤمنين بالثبات على الإيمان وإدامته، والنفقة في سبيل الله تعالى. قال الضحاك : نزلت في غزوة تبوك. ﴿مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ : أي ليست لكم بالحقيقة، وإنما انتقلت إليكم من غيركم. وكما وصلت إليكم تتركونها لغيركم، وفيه تزهيد فيما بيد الناس، إذ مصيره إلى غيره، وليس له منه إلا ما جاء في الحديث :"يقول ابن آدم : مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت". وقيل لأعرابي : لمن هذه الإبل ؟ فقال : هي لله تعالى عندي. أو يكون المعنى : إنه تعالى أنشأ هذه الأموال، فمتعكم بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١٦


الصفحة التالية
Icon