من ذلك النور. وقيل : الباء بمعنى عن، أي عن أيمانهم، والمعنى : في جميع جهاتهم. وعبر عن ذلك بالأيمان تشريفاً لها. وقال الزمخشري : وإنما قال ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم﴾، لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم. وقرأ الجمهور :﴿وَبِأَيْمَـانِهِم﴾، جمع يمين ؛ وسهل بن شعيب السهمي، وأبو حيوة : بكسر الهمزة، وعطف هذا المصدر على الظرف لأن الظرف متعلق بمحذوف، أي كائناً بين أيديهم، وكائناً بسبب أيمانهم.
﴿بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّـاتٌ﴾ : جملة معمولة لقول محذوف، أي تقول لهم الملائكة : الذين يتلقونهم جنات، أي دخول جنات. قال ابن عطية :﴿خَـالِدِينَ فِيهَا ﴾، إلى آخر الآية، مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلّم. انتهى. ولا مخاطبة هنا، بل هذا من باب الالتفات من ضمير الخطاب في ﴿بُشْرَاكُمُ﴾ إلى ضمير الغيبة في ﴿خَـالِدِينَ﴾. ولو جرى على الخطاب، لكان التركيب خالداً أنتم فيها، والالتفات من فنون البيان ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾ بدل من ﴿يَوْمَ تَرَى﴾. وقيل : معمول لأذكر. قال ابن عطية : ويظهر لي أن العامل فيه ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، ومجيء معنى الفوز أفخم، كأنه يقول : إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم. انتهى. فظاهر كلامه وتقديره أن يوم منصوب بالفوز، وهو لا يجوز، لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته، فلا يجوز إعماله. فلو أعمل وصفة، وهو العظيم، لجاز، أي الفوز الذي عظم، أي قدره ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١٦
﴿انظُرُونَا﴾ : أي انتظرونا، لأنهم لما سبقوكم إلى المرور على الصراط، وقد طفئت أنوارهم، قالوا ذلك. قال الزمخشري :﴿انظُرُونَا﴾ : انتظرونا، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تذف بهم وهؤلاء مشاة، أو انظروا إلينا، لأنهم إذا انظروا إليهم استقبلوهم بوجوهم والنور بين أيديهم فيستضيئون به. انتهى. فجعل انظرونا بمعنى انظروا إلينا، ولا يتعدى النظر هذا في لسان العرب إلا بإلى لا بنفسه، وإنما وجد متعدياً بنفسه في الشعر. وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة : أنظرونا من أنظر رباعياً، أي أخرونا، أي اجعلونا في آخركم، ولا تسبقونا بحيث تفوتوننا، ولا نلحق بكم. ﴿نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ : أي نصب منه حتى نستضيء به. ويقال : اقتبس الرجل واستقبس : أخذ من نار غيره قبساً. ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ﴾ : القائل المؤمنون، أو الملائكة. والظاهر أن ﴿وَرَآءَكُمْ﴾ معمول لا رجعوا. وقيل : لا محل له من الأعراب لأنه بمعنى ارجعوا، كقولهم : وراءك أوسع لك، أي ارجع تجد مكاناً أوسع لك. وارجعوا أمر توبيخ وطرد، أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا الفوز فالتمسوه هناك، أو ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نوراً، أي بتحصيل سببه وهو الإيمان، أو تنحوا عنا، ﴿فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه. وقد علموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو إقناط لهم.
﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم﴾ : أي بين المؤمنين والمنافقين، ﴿بِسُورٍ﴾ : بحاجز. قال ابن زيد : هو الأعراف. وقيل : حاجز غيره. وقرأ الجمهور : فضرب مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن علي وعبيد بن عمير : مبنياً للفاعل، أي الله، ويبعد قول من قال : إن هذا السور هو الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس، وهو مروي عن عبادة بن الصامت وابن عباس وعبد الله بن عمر وكعب الأحبار، ولعله لا يصح عنهم. والسور هو الحاجز الدائر على المدينة للحفظ من عدو. والظاهر في باطنه أن يعود الضمير منه على الباب لقربه. وقيل : على السور، وباطنه الشق الذي لأهل الجنة، وظاهره ما يدانيه من قبله من جهته العذاب.
: استئناف إخبار، أي ينادون المنافقون المؤمنين، ﴿أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ : أي في الظاهر، ﴿قَالُوا بَلَى ﴾ : أي كنتم معنا في الظاهر، ﴿وَلَـاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ : أي عرضتم أنفسكم للفتنة بنفاقكم، ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ أي بأيمانكم حتى وافيتم على الكفر، أو تربصتم بالمؤمنين الدوائر، قاله قتادة، ﴿وَارْتَبْتُمْ﴾ : شككتم في أمر الدين، ﴿وَغرَّتْكُمُ الامَانِىُّ﴾ : وهي الأطماع، مثل
٢٢١
قولهم : سيهلك محمد هذا العام، تهزمه قبيلة قريش مستأخرة الأحزاب إلى غير ذلك، أو طول الآمال في امتداد الأعمار، ﴿حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾، وهو الموت على النفاق، والغرور : الشيطان بإجماع. وقرأ سماك بن حرب : الغرور، وتقدم ذلك.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١٦