هم المنافقون، والمغضوب عليهم : هم اليهود، عن السدي ومقاتل، أنه صلى الله عليه وسلّم قال لأصحابه :"يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان"، فدخل عبد الله بن أبي بن سلول، وكان أزرق أسمر قصيراً، خفيف اللحية، فقال عليه الصلاة والسلام :"علام تشتمني أنت وأصحابك" ؟ فحلف بالله ما فعل، فقال عليه الصلاة والسلام له :"فعلت"، فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت. والضمير في ﴿مَّا هُم﴾ عائد على ﴿الَّذِينَ تَوَلَّوْا ﴾، وهم المنافقون : أي ليسوا منكم أيها المؤمنون، ﴿وَلا مِنْهُمْ﴾ : أي ليسوا من الذين تولوهم، وهم اليهود. وما هم استئناف إخبار بأنهم مذبذبون، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما قال عليه الصلاة والسلام :"مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكفار بقلبه". وقال ابن عطية : يحتمل تأويلاً آخر، وهو أن يكون قوله :﴿مَّا هُم﴾ يريد به اليهود، وقوله :﴿وَلا مِنْهُمْ﴾ يريد به المنافقين، فيجيء فعل المنافقين على هذا التأويل أحسن، لأنهم تولوا مغضوباً عليهم، ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم، ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صواباً. انتهى. والظاهر التأويل الأول، لأن الذين تولوا هم المحدث عنهم. والضمير في ﴿وَيَحْلِفُونَ﴾ عائد عليهم، فتتناسق الضمائر لهم ولا تختلف. وعلى هذا التأويل يكون ﴿مَّا هُم﴾ استئنافاً، وجاز أن يكون حالاً من ضمير ﴿تَوَلَّوْا ﴾. وعلى احتمال ابن عطية، يكون ﴿مَّا هُم﴾ صفة لقوم. ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ﴾، إما أنهم ما سبوا، كما روي في سبب النزول، أو على أنهم مسلمون. والكذب هو ما ادعوه من الإسلام. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ : جملة حالية يقبح عليهم، إذ حلفوا على خلاف ما أبطنوا، فالمعنى : وهم عالمون متعمدون له. والعذاب الشديد : المعد لهم في الآخرة. وقرأ الجمهور :﴿أَيْمَانَهُمْ﴾ جمع يمين ؛ والحسن : إيمانهم، بكسر الهمزة : أي ما يظهرون من الإيمان، ﴿جُنَّةً﴾ : أي ما يتسترون به ويتقون المحدود، وهو الترس، ﴿فَصَدُّوا ﴾ : أي أعرضوا، أو صدوا الناس عن الإسلام، إذ كانوا يثبطون من لقوا عن الإسلام ويضعفون أمر الإيمان وأهله، أو صدوا المسلمين عن قتلهم بإظهار الإيمان، وقتلهم هو سبيل الله فيهم، لكن ما أظهروه من الإسلام صدوا به المسلمين عن قتلهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٩
﴿لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْاًا ﴾ : تقدم الكلام على هذه الجملة في أوائل آل عمران. ﴿فَيَحْلِفُونَ لَهُ﴾ : أي لله تعالى. ألا ترى إلى قولهم :﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ ؟ ﴿كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ أنهم مؤمنون، وليسوا بمؤمنين. والعجب منهم، كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على عالم الغيب والشهادة، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم ؟ والمقصود أنهم مقيمون على الكذب، قد تعودوه حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كان في الدنيا، ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْءٍ ﴾ : أي شيء نافع لهم.
﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾ : أي أحاط بهم من كل جهة، وغلب على نفوسهم واستولى عليها، وتقدمت هذه المادة في قوله تعالى :﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ في النساء، وأنها من حاذ الحمار العانة إذا ساقها، وجمعها غالباً لها، ومنه كان أحوذياً نسيج وحده. وقرأ عمر : استحاذ، أخرجه على الأصل والقياس، واستحوذ شاذ في القياس فصيح في الاستعمال. ﴿فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ : فهم لا يذكرونه، لا بقلوبهم ولا بألسنتهم ؛ و﴿حِزْبُ الشَّيْطَانِ﴾ : جنده، قاله أبو عبيدة. ﴿أُوالَئاِكَ فِى الاذَلِّينَ﴾ : هي أفعل التفضيل، أي في جملة من هو أذل خلق الله تعالى، لا ترى أحداً أذل منهم.
وعن مقاتل : لما فتح الله مكة للمؤمنين، والطائف وخيبر وما حولهم، قالوا : نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي :
٢٣٨
أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها ؟ والله إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت :﴿كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى ﴾ :﴿كَتَبَ﴾ : أي في اللوح المحفوظ، أو قضى. وقال قتادة : بمعنى قال، ﴿وَرُسُلِى ﴾ : أي من بعثت منهم بالحرب ومن بعثت منهم بالحجة. ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ﴾ : ينصر حزبه، ﴿عَزِيزٌ﴾ : يمنعه من أن يذل.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٩
﴿لا تَجِدُ قَوْمًا﴾، قال الزمخشري، من باب التخييل : خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوماً مؤمنين يوادون المشركين، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك، وحقه أن يمتنع، ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله. وزاد ذلك تأكيداً بقوله :﴿وَلَوْ كَانُوا ءَابَآءَهُمْ﴾. انتهى. وبدأ بالآباء لأنهم الواجب على الأولاد طاعتهم، فنهاهم عن موادتهم. وقال تعالى :﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِا عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب، ثم أتى ثالثاً بالإخوان لأنهم بهم التعاضد، كما قيل :
أخاك أخاك إن من لا أخاً لهكساع إلى الهيجاء بغير سلاح
ثم رابعاً بالعشيرة، لأن بها التناصر، وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إلى ما دعوا إليه، كما قال :
لا يسألون أخاهم حين يندبهمفي النائبات على ما قال برهاناً
وقرأ الجمهور :﴿كَتَبَ﴾ مبنياً للفاعل، ﴿فِى قُلُوبِهِمُ الايمَانَ﴾ نصباً، أي كتب الله. وأبو حيوة والمفضل عن عاصم : كتب مبنياً للمفعول، والإيمان رفع. والجمهور :﴿أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ على الإفراد ؛ وأبو رجاء : على الجمع، والمعنى : أثبت الإيمان في قلوبهم وأيدهم بروح منه تعالى، وهو الهدى والنور واللطف. وقيل : الروح : القرآن. وقيل : جبريل يوم بدر. وقيل : الضمير في منه عائد على الإيمان، والإنسان في نفسه روح يحيا به المؤمن، والإشارة بأولئك كتب إلى الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله. قيل : والآية نزلت في أبي حاطب بن أبي بلتعة. وقيل : الظاهر أنها متصلة بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود. وقيل : نزلت في ابن أبيّ وأبي بكر الصديق، رضى الله تعالى عنه، كان منه سب للرسول صلى الله عليه وسلّم، فصكه أبو بكر صكة سقط منها، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام :"أوفعلته" ؟ قال : نعم، قال :"لا تعد"، قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته. وقيل : في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أُحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه بن عمير يوم أُحد. وقال ابن شوذب : يوم بدر، وفي عمر قتل خاله العاصي بن هشام يوم بدر، وفي عليّ وحمزة وعبيد بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة يوم بدر. وقال الواقدي في قصة أبي عبيدة أنه قتل أباه، قال : كذلك يقول أهل الشام، وقد سألت رجالاً من بني فهر فقالوا : توفي أبوه قبل الإسلام. انتهى، يعنون في الجاهلية قبل ظهور الإسلام. وقد رتب المفسرون. ﴿وَلَوْ كَانُوا ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومصعب وعمر وعليّ وحمزة وعبيد مع أقربائهم، والله تعالى أعلم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٩


الصفحة التالية
Icon