وروي أن قوماً من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا : لنا منها سهمنا، فنزل :﴿وَمَآ ءَاتَـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾. وعن الكلبي : أن رؤساً من المسلمين قالوا له : يا رسول الله، خذ صفيك والربع ودعنا والباقي، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية، فنزل :﴿وَمَآ ءَاتَـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ الآية، وهذا عام يدخل فيه قسمة ما أفاء الله والغنائم وغيرها ؛ حتى أنه قد استدل بهذا العموم على تحريم الخمر، وحكم الواشمة والمستوشمة، وتحريم المخيط للمحرم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٣٩
ومن غريب الحكايات في الاستنباط : أن الشافعي، رحمه الله تعالى، قال : سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلّم. فقال له عبد الله بن محمد بن هارون : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ؟ فقال : قال الله تعالى :﴿وَمَآ ءَاتَـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾. وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن خراش، عن حذيفة بن اليمان، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر". وحدثنا سفيان بن عيينة، عن مسعر بن كدام، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب، أنه أمر بقتل الزنبور. انتهى. ويعني في الإحرام. بين أنه يقتدي بعمر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلّم أمر بالاقتداء به، وأن الله تعالى أمر بقبول ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قوله عز وجل :﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَـاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَـارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُا أُوالَئاِكَ هُمُ الصَّـادِقُونَ * وَالَّذِينَ﴾.
٢٤٥
﴿لِلْفُقَرَآءِ﴾، قال الزمخشري : بدل من قوله :﴿وَلِذِى الْقُرْبَى ﴾، والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من ﴿لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾،
٢٤٦
والمعطوف عليهما، وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، أن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله :﴿وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُا ﴾، وأنه يترفع برسول الله صلى الله عليه وسلّم عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وعلا. انتهى. وإنما جعله الزمخشري بدلاً من قوله :﴿وَلِذِى الْقُرْبَى ﴾، لأنه مذهب أبي حنيفة، والمعنى إنما يستحق ذو القربى الفقير. فالفقر شرط فيه على مذهب أبي حنيفة، ففسره الزمخشري على مذهبه. وأما الشافعي، فيرى أن سبب الاستحقاق هو القرابة، فيأخذ ذو القربى الغني لقرابته.
وقال ابن عطية :﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَـاجِرِينَ﴾ بيان لقوله :﴿وَالْمَسَـاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، وكررت لام الجر لما كانت الأولى مجرورة باللام، ليبين بين الأغنياء منكم، أي ولكن يكون للفقراء. انتهى. ثم وصف تعالى المهاجرين بما يقتضي فقرهم ويوجب الإشفاق عليهم. ﴿أُوالَئاِكَ هُمُ الصَّـادِقُونَ﴾ : أي في إيمانهم وجهادهم قولاً وفعلاً. والظاهر أن قوله :﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على المهاجرين، وهم الأنصار، فيكون قد وقع بينهم الاشتراك فيما يقسم من الأموال. وقيل : هو مستأنف مرفوع بالابتداء، والخبر ﴿هَـا ؤُلاءِ يُحِبُّونَ﴾. أثنى الله تعالى بهذه الخصال الجليلة، كما أنثى على المهاجرين بقوله :﴿يَبْتَغُونَ فَضْلا﴾ الخ، والإيمان معطوف على الدار، وهي المدينة، والإيمان ليس مكاناً فيتبوأ. فقيل : هو من عطف الجمل، أي واعتقدوا الإيمان وأخلصوا فيه، قاله أبو عليّ، فيكون كقوله :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٣٩
علفتها تبناً وماء بارداً
أو يكون ضمن معنى لزموا، واللزوم قدر مشترك في الدار والإيمان، فيصح العطف. أو لما كان الإيمان قد شملهم، صار كالمكان الذي يقيمون فيه، لكن يكون ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز. قال الزمخشري : أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه ؛ أو سمى المدينة، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان. وقال ابن عطية : والمعنى تبوؤا الدار مع الإيمان معاً، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله :﴿خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ﴾ فتأمله. انتهى. ومعنى ﴿مِن قَبْلِهِمْ﴾ : من قبل هجرتهم، ﴿حَاجَةً﴾ : أي حسداً، ﴿مِّمَّآ أُوتُوا ﴾ : أي مما أعطي المهاجرون، ونعم الحاجة ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلّم في إعطاء المهاجرين من أموال بني النضير والقرى.


الصفحة التالية
Icon