وقيل : والكتاب أريد به الكتب المنزلة، والضمير في جعلناه يعود على القرآن، وإن لم يتقدم له صريح الذكر لدلالة المعنى عليه. وقال الزمخشري : جعلناه، بمعنى صيرناه، معدى إلى مفعولين، أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد، كقوله :﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ﴾. ﴿وَقُرْءَانًا فَرَقْنَـاهُ﴾ : حال. ولعل : مستعارة لمعنى الإرداة، لتلاحظ معناها ومعنى الترجي، أي خلقناه عربياً غير عجمي. أراد أن تعقله العرب، ولئلا يقولوا :﴿لَوْلا فُصِّلَتْ ءَايَـاتُهُا ﴾. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال في كون القرآن مخلوقاً. ﴿أُمُّ الْكِتَـابِ﴾ : اللوح المحفوظ، لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب، وهذا فيه تشريف للقرآن، وترفيع بكونه. لديه علياً : على جميع الكتب، وعالياً عن وجوه الفساد. حكيماً : أي حاكماً على سائر الكتب، أو محكماً بكونه في غاية البلاغة والفصاحة وصحة المعاني. قال قتادة وعكرمة والسدي : اللوح المحفوظ : القرآن فيه بأجمعه منسوخ، ومنه كان جبريل ينزل. وقيل : أم الكتاب : الآيات المحكمات، لقوله :﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَـابِ﴾، ومعناه : أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأم. وقرأ الجمهور : في أم، بضم الهمزة، والإخوان بكسرها، وعزاها ابن عطية يوسف بن عمرو إلى العراق، ولم يعزها للإخوان عقلة منه. يقال : ضرب عن كذا، وأضرب عنه، إذا أعرض عنه. والذكر، قال الضحاك وأبو صالح : القرآن، أي افترائي عنكم القرآن. وقولهم : ضرب الغرائب عن الحوض، إذا أدارها ونحاها، وقال الشاعر :
اضرب عنك الهموم طارقهاضربك بالسيف قونس الفرس
وقيل : الذكر : الدعاء إلى الله والتخويف من عقابه. قال الزمخشري : والفاء للعطف على محذوف تقديره : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر إنكاراً ؟ لأن يكون الأمر على خلاف ما قدم من إنزاله الكتاب وخلقه قرآناً عربياً لتعقلوه وتعملوا بموجبه. انتهى. وتقدم الكلام معه في تقديره فعلاً بين الهمزة والفاء في نحو :﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا ﴾ ؟ ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ؟ وبينها وبين الواو في نحو :﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا ﴾ ؟ كما وأن المذهب الصحيح قول سيبويه والنحويين : أن الفاء والواو منوي بهما التقديم لعطف ما بعدهما على ما قبلهما، وأن الهمزة تقدمت لكون الاستفهام له صدر الكلام، ولا خلاف بين الهمزة والحرف، وقد رددنا عليه قوله : وقال ابن عباس ومجاهد : المعنى : أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفواً عنكم وعفواً عن إجرامكم ؟ أن كنتم أو من أجل أن كنتم قوماً مسرفين ؟ أي هذا لا يصلح. ونحا قتادة إلى أن المعنى صفحاً، أي معفوا عنه، أي نتركه. ثم لا تؤاخذون بقوله ولا بتدبره، ولا تنبهون عليه. وهذا المعنى نظير قول الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢
ثم الصبا صفحاً بساكن ذي الفضاوبصدع قلبي أن يهب هبوبها
وقول كثير :
صفوحاً فما تلقاك إلا بخيلةفمن مل منها ذلك الوصل ملت
وقال ابن عباس : المعنى : أفحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أمرتم به ؟ وقال الكلبي : أن نترككم هملاً بلا أمر ولا نهي ؟ وقال مجاهد أيضاً : أن لا نعاقبكم بالتكذيب ؟ وقيل : أن نترك الإنزال للقرآن من أجل تكذبيهم ؟ وقرأ حسان بن عبد الرحمن الضبغي، والسميط بن عمير، وشميل بن عذرة : بضم الصاد، والجمهور : بفتحها، وهما لغتان، كالسد والسد. وانتصاب صفحاً على أنه مصدر من معنى أفنضرب، لأن معناه : أفنصفح ؟ أو مصدر في موضع الحال، أي صافحين، قالهما الحوفي، وتبعه أبو البقاء. وقال الزمخشري : وصفحاً على وجهين : إما مصدر من صفح عنه، إذا أعرض منتصباً على أنه مفعول له على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم ؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم : نظر إليه بصفح وجهه. وصفح وجهه على معنى : أفننحيه عنكم جانباً ؟ فينصب على الظرف، كما تقول : ضعه جانباً، وامش جانباً. وتعضده قراءة من قرأ صفحاً بالضم. وفي هذه القراءة وجه آخر، وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح، وينتصب على الحال، أي صافحين معرضين. وقال ابن عطية : صفحاً، انتصابه كانتصاب صنع الله. انتهى. يعني أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، فيكون العامل فيه محذوفاً، ولا يظهر هذا الذي قاله، فليس انتصابه انتصاب صنع الله. وقرأ نافع والإخوان : بكسر الهمزة، وإسرافهم كان متحققاً. فكيف دخلت عليه إن الشرطية التي لا تدخل إلا على غير المتحقق، أو على المتحقق الذي أنبهم زمانه ؟ قال الزمخشري : هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته، كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي، وهو عالم بذلك، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق، مع وضوحه، استجهالاً له. وقرأ الجمهور : أن بفتح الهمزة، أي من أجل أن كنتم. قال الشاعر :
أتجزع أن بان الخليط المودع
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢


الصفحة التالية
Icon