ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلاً عن المنافقين، واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك، وذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة، إذ كان وقت مجاعة، جاء ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان، وأتبعه بقبائح أفعالهم وقولهم :﴿لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا ﴾، إذ كانوا هم أصحاب أموال، والمهاجرون فقراء قد تركوا أموالهم ومتاجرهم وهاجروا لله تعالى. ﴿قَالُوا نَشْهَدُ﴾ : يجري مجرى اليمين، ولذلك تلقى بما يتلقى به القسم، وكذا فعل اليقين. والعلم يجري مجرى القسم بقوله :﴿إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾، وأصل الشهادة أن يواطىء اللسان القلب هذا بالنطق، وذلك بالاعتقاد ؛ فأكذبهم الله وفضحهم بقوله :﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ﴾ : أي لم تواطىء قلوبهم ألسنتهم على تصديقك، واعتقادهم أنك غير رسول، فهم كاذبون عند الله وعند من خبر حالهم، أو كاذبون عند أنفسهم، إذ كانوا يعتقدون أن قولهم :﴿إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ كذب. وجاء بين شهادتهم وتكذيبهم قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾، إيذاناً أن الأمر كما لفظوا به من كونه رسول الله حقاً. ولم تأت هذه الجملة لتوهم أن قولهم هذا كذب، فوسطت الأمر بينهما ليزول ذلك التوهم. ﴿اتَّخَذْوا أَيْمَـانَهُمْ﴾ : سمى شهادتهم تلك أيماناً. وقرأ الجمهور : أيمانهم، بفتح الهمزة جمع يمين ؛ والحسن : بكسرها، مصدر آمن. ولما ذكر أنهم كاذبون، أتبعهم بموجب كفرهم، وهو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها، ويذبون بها عن أنفسهم وأموالهم، كما قال بعض الشعراء :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٦٩
وما انتسبوا إلى الإسلام إلالصون دمائهم أن لا تسالا
ومن أيمانهم أيمان عبد الله، ومن حلف معه من قومه أنه ما قال ما نقله زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، جعلوا تلك الأيمان جنة تقي من القتل، وقال أعشى همدان :
إذا أنت لم تجعل لعرضك جنةمن المال سار القوم كل مسير
وقال الضحاك : اتخذوا حلفهم بالله أنهم لمنكم. وقال قتادة : كلما ظهر شيء منهم يوجب مؤاخذتهم، حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم. وقال السدي :﴿جَنَّةُ﴾ من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا، ﴿فَصَدُّوا ﴾ : أي أعرضوا وصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام، ﴿ذَالِكَ﴾ أي ذلك الحلف الكاذب والصد المقتضيان لهم سوء العمل بسبب أيمانهم ثم كفرهم. وقال ابن عطية : ذلك إشارة إلى فعل الله بهم في فضيحتهم وتوبيخهم، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا، فالمعنى : ساء عملهم بأن كفروا. وقال الزمخشري : ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا، أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستخفاف بالإيمان، أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا. وقرأ الجمهور :﴿فَطُبِعَ﴾ مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن علي : مبنياً للفاعل : أي فطبع الله ؛ وكذا قراءة
٢٧١
الأعمش وزيد في رواية مصرحاً بالله. ويحتمل على قراءة زيد الأولى أن يكون الفاعل ضميراً يعود على المصدر المفهوم من ما قبله، أي فطبع هو، أي بلعبهم بالدين. ومعنى ﴿ءَامَنُوا ﴾ : نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل المسلمون، ﴿ثُمَّ كَفَرُوا ﴾ : أي ظهر كفرهم بما نطقوا به من قولهم : لئن كان محمد ما يقوله حقاً فنحن شر من الحمير، وقولهم : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر ؟ هيهات، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين وبالكفر عند شياطينهم، أو ذلك فيمن آمن ثم ارتد.


الصفحة التالية
Icon