﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾ : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم، أو للسامع : أي لحسنها ونضارتها وجهارة أصواتهم، فكان منظرهم يروق، ومنطقهم يحلو. وقرأ الجمهور :﴿تُسْمِعُ﴾ بتاء الخطاب ؛ وعكرمة وعطية العوفي : يسمع بالياء مبنياً للمفعول، و﴿لِقَوْلِهِمْ﴾ : الجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وليست اللام زائدة، بل ضمن يسمع معنى يصغ ويمل، تعدى باللام وليست زائدة، فيكون قولهم هو المسموع. وشبهوا بالخشب لعزوب أفهامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان، ولم يكن حتى جعلها مسندة إلى الحائط، لا انتفاع بها لأنها إذا كانت في سقف أو مكان ينتفع بها، وأما إذا كانت غير منتفع بها فإنها تكون مهملة مسندة إلى الحيطان أو ملقاة على الأرض قد صففت، أو شهوة بالخشب التي هي الأصنام وقد أسندت إلى الحيطان، والجملة التشبيهية مستأنفة، أو على إضمارهم. وقرأ الجمهور :﴿خُشُبٌ﴾ بضم الخاء والشين ؛ والبراء بن عازب والنحويان وابن كثير : بإسكان الشين، تخفيف خشب المضموم. وقيل : جمع خشباء، كحمر جمع حمراء، وهي الخشبة التي نخر جوفها، شبهوا بها في فساد بواطنهم. وقرأ ابن المسيب وابن جبير : خشب بفتحتين، اسم جنس، الواحد خشبة، وأنث وصفه كقوله :﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾، أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام. وذكر ممن كان ذا بهاء وفصاحة عبد الله بن أبيّ، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير. قال الشاعر في مثل هؤلاء :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٦٩
لا تخدعنك اللحى ولا الصورتسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشراوليس فيها لطالب مطر
في شجر السرو منهم شبهله رواء وما له ثمر
وقيل : الجملة التشبيهية وصف لهم بالجبن والخور، ويدل عليه :﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ في موضع المفعول الثاني ليحسبون، أي واقعة عليهم، وذلك لجبنهم وما في قلوبهم من الرعب. قال مقاتل : كانوا متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحاً بأي وجه كان، أو أخبروا بنزول وحي، طارت عقولهم حتى يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم، وكانوا يخافون أن ينزل الله تعالى فيهم ما تباح به دماؤهم وأموالهم، ونحو هذا قول الشاعر :
يروعه السرار بكل أرضمخافة أن يكون به السرار
وقال جرير :
ما زلت تحسب كل شيء بعدهمخيلاً تكر عليهم ورجالا
أنشده ابن عطية لجرير، ونسب هذا البيت الزمخشري للأخطل. قال : ويجوز أن يكون ﴿هُمُ الْعَدُوُّ﴾ المفعول الثاني كما لو طرحت الضمير. فإن قلت : فحقه أن يقول : هي العدو. قلت : منظور فيه إلى الخبر، كما ذكر في هذا ربي، وأن يقدر مضاف محذوف على يحسبون كل أهل صيحة. انتهى. وتخريج ﴿هُمُ الْعَدُوُّ﴾ على أنه مفعول ثان ليحسبون تخريج متكلف بعيد عن الفصاحة، بل المتبادر إلى الذهن السليم أن يكون ﴿هُمُ الْعَدُوُّ﴾ إخباراً منه تعالى بأنهم، وإن أظهروا الإسلام وأتباعهم، هم المبالغون في عداوتك ؛
٢٧٢
ولذلك جاء بعده أمره تعالى إياه بحذرهم فقال :﴿فَاحْذَرْهُمْ﴾، فالأمر بالحذر متسبب عن إخباره بأنهم هم العدو. و﴿قَـاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ : دعاء يتضمن إبعادهم، وأن يدعو عليهم المؤمنون بذلك. ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ : أي كيف يصرفون عن الحق، وفيه تعجب من ضلالهم وجهلهم.
ولما أخبره تعالى بعداوتهم، أمره بحذرهم، فلا يثق بإظهار مودتهم، ولا بلين كلامهم. و﴿قَـاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ : كلمة ذم وتوبيخ، وقالت العرب : قاتله الله ما أشعره. يضعونه موضع التعجب، ومن قاتله الله فهو مغلوب، لأنه تعالى هو القاهر لكل معاند. وكيف استفهام، أي كيف يصرفون عن الحق ولا يرون رشد أنفسهم ؟ قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون أنى ظرفاً لقاتلهم، كأنه قال : قاتلهم الله كيف انصرفوا أو صرفوا، فلا يكون في هذا القول استفهام على هذا. انتهى. ولا يصح أن يكون أنى لمجرد الظرف، بل لا بد يكون ظرفاً استفهاماً، إما بمعنى أين، أو بمعنى متى، أو بمعنى كيف، أو شرطاً بمعنى أين. وعلى هذه التقادير لا يعمل فيها ما قبلها، ولا تتجرد لمطلق الظرفية بحال من غير اعتبار ما ذكرناه، فالقول بذلك باطل.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٦٩


الصفحة التالية
Icon