﴿وَإِن كُنَّ أُوْلَـاتِ حَمْلٍ﴾ : لا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها، بتت أو لم تبت. فإن كانت متوفى عنها، فأكثر العلماء على أنها لا نفقة لها ؛ وعن علي وابن مسعود : تجب نفقتها في التركة. ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ : أي ولدن وأرضعن المولود وجب لها النفقة، وهي الأجر والكسوة وسائر المؤن على ما قرر في كتب الفقه، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد بينهن ما لم يبن، ويجوز عند الشافعي. وفي تعميم المطلقات بالسكنى، وتخصيص أولات الأحمال بالنفقة دليل على أن غيرها من المطلقات لا يشاركها في النفقة، وتشاركهن في السكنى. : افتعلوا من الأمر، يقال : ائتمر القوم وتأمروا، إذا أمر بعضهم بعضاً ؛ والخطاب للآباء والأمهات، أي وليأمر بعضكم بعضاً ﴿فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ﴾ : أي في الأجرة والإرضاع، والمعروف : الجميل بأن تسامح الأم، ولا يماكس الأب لأنه ولدهما معاً، وهما شريكان فيه، وفي وجوب الإشفاق عليه. وقال الكسائي :: تشاوروا، ومنه قوله تعالى :﴿يَـامُوسَى إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾، وقول امرىء القيس :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٠
ويعدو على المرء ما يأتمر
وقيل : المعروف : الكسوة والدثار. ﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ﴾ : أي تضايقتم وتشاكستم، فلم ترض إلا بما ترضى به الأجنبية، وأبي الزوج الزيادة، أو إن أبى الزوج الإرضاع إلا مجاناً، وأبت هي إلا بعوض، ﴿فَسَتُرْضِعُ لَهُا أُخْرَى ﴾ : أي يستأجر غيرها، وليس له إكراهها. فإن لم يقبل إلا ثدي أمه، أجبرت على الإرضاع بأجرة مثلها، ولا يختص هذا الحكم من وجوب أجرة الرضاع بالمطلقة، بل المنكوحة في معناها. وقيل : فسترضع خبر في معنى الأمر، أي فلترضع له أخرى. وفي قوله :﴿فَسَتُرْضِعُ لَهُا أُخْرَى ﴾ يسير معاتبة للأم إذا تعاسرت، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك، تريد : لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم. والضمير في له عائد على الأب، كما تعدى في قوله :﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ : أي للأزواج.
﴿لِيُنفِقْ﴾ الموسر والمقدور عليه ما بلغه وسعه، أي على المطلقات والمرضعات، ولا يكلف ما لا يطيقه. والظاهر أن المأمور بالإنفاق الأزواج، وهذا أصل في وجوب نفقة الولد على الوالد دون الأم. وقال محمد بن المواز : إنها على الأبوين على قدر الميراث. وفي الحديث :"يقول لك ابنك انفق عليّ إلى من تكلني"، ذكره في صحيح البخاري. وقرأ الجمهور :﴿لِيُنفِقْ﴾
٢٨٥
بلام الأمر، وحكى أبو معاذ : لينفق بلام كي ونصب القاف، ويتعلق بمحذوف تقديره : شرعنا ذلك لينفق. وقرأ الجمهور :﴿قُدِرَ﴾ مخففاً ؛ وابن أبي عبلة : مشدد الدال، سيجعل الله وعد لمن قدر عليه رزقه، يفتح له أبواب الرزق. ولا يختص هذا الوعد بفقراء ذلك الوقت، ولا بفقراء الأزواج مطلقاً، بل من أنفق ما قدر عليه ولم يقصر، ولو عجز عن نفقة امرأته. فقال أبو هريرة والحسن وابن المسيب ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق : يفرق بينهما. وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة : لا يفرق بينهما.
قوله عز وجل :﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِا فَحَاسَبْنَـاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَـاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَـاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَـا أُوْلِى الالْبَـابِ الَّذِينَ ءَامَنُوا ا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَـاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِا وَمَن يُؤْمِنا بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَـالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَه رِزْقًا﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٠
تقدم الكلام على كأين في آل عمران، وعلى نكراً في الكهف. ﴿عَتَتْ﴾ : أعرضت، ﴿عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾، على سبيل العناد والتكبر. والظاهر في ﴿فَحَاسَبْنَـاهَا﴾ الجمل الأربعة، إن ذلك في الدنيا لقوله بعدها :﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾، وظاهره أن المعد عذاب الآخرة، والحساب الشديد هو الاستقصاء والمناقشة، فلم تغتفر لهم زلة، بل أخذوا بالدقائق من الذنوب. وقيل : الجمل الأربعة من الحساب والعذاب والذوق والخسر في الآخرة، وجيء به على لفظ الماضي، كقوله :﴿وَنَادَى أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ﴾، ويكون قوله :﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾ تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً، كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب. وقال الكلبي : الحساب في الآخرة، والعذاب النكير في الدنيا بالجوع والقحط والسيف.