ولما ذكر ما حل بهذه القرية العاتية، أمر المؤمنين بتقوى الله تحذيراً من عقابه، ونبه على ما يحض على التقوى، وهو إنزال الذكر. والظاهر أن الذكر هو القرآن، وأن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلّم. فإما أن يجعل نفس الذكر مجازاً لكثرة يقدر منه الذكر، فكأنه هو الذكر، أو يكون بدلاً على حذف مضاف، أي ذكر رسول. وقيل :﴿رَسُولا﴾ نعت على حذف مضاف، أي ذكراً، ذا رسول. وقيل : المضاف محذوف من الأول، أي ذا ذكر رسولاً، فيكون رسولاً نعتاً لذلك المحذوف أو بدلاً. وقيل : رسول بمعنى رسالة، فيكون بدلاً من ذكر، أو يبعده قوله بعده ﴿يَتْلُوا عَلَيْكُمْ﴾، والرسالة لا تسند التلاوة إليها إلا مجازاً. وقىل : الذكر أساس أسماء النبي صلى الله عليه وسلّم. وقيل : الذكر : الشرف لقوله :﴿وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾، فيكون رسولاً بدلاً منه وبياناً له. وقال الكلبي : الرسول هنا جبريل عليه السلام، وتبعه الزمخشري فقال : رسولاً هو جبريل صلوات الله وسلامه عليه، أبدل من ذكراً لأنه وصف بتلاوة آيات الله، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر، فصح إبداله منه. انتهى. ولا يصح لتباين المدلولين بالحقيقة، ولكونه لا يكون بدل بعض ولا بدل اشتمال، وهذه الأعاريب على أن يكون ذكراً ورسولاً لشيء واحد. وقيل : رسولاً منصوب بفعل محذوف، أي بعث رسولاً، أو أرسل رسولاً، وحذف لدلالة أنزل عليه، ونحا إلى هذا السدي، واختاره ابن عطية. وقال الزجاج وأبو علي الفارسي : يجوز أن يكون رسولاً معمولاً للمصدر الذي هو الذكر. انتهى.
٢٨٦
فيكون المصدر مقدراً بأن، والقول تقديره : إن ذكر رسولاً وعمل منوناً كما عمل، أو ﴿إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا﴾، كما قال الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٠
بضرب بالسيوف رءوس قومأزلنا هامهن عن المقيل
وقرىء : رسول بالرفع على إضمار هو ليخرج، يصح أن يتعلق بيتلو وبأنزل. ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ : أي الذين قضى وقدر وأراد إيمانهم، أو أطلق عليهم آمنوا باعتبار ما آل أمرهم إليه. وقال الزمخشري : ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح، لأنهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين، وإنما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ. انتهى. والضمير في ﴿لِّيُخْرِجَ﴾ عائد على الله تعالى، أو على الرسول صلى الله عليه وسلّم، أو على الذكر. ﴿وَمَن يُؤْمِن﴾ : راعى اللفظ أولاً في من الشرطية، فأفرد الضمير في ﴿يُؤْمِن﴾، ﴿وَيَعْمَلْ﴾، و﴿يُدْخِلْهُ﴾، ثم راعى المعنى في ﴿خَالِدِينَ﴾، ثم راعى اللفظ في ﴿قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ﴾ فأفرد. واستدل النحويون بهذه الآية على مراعاة اللفظ أولاً، ثم مراعاة المعنى، ثم مراعاة اللفظ. وأورد بعضهم أن هذا ليس كما ذكروا، لأن الضمير في ﴿خَالِدِينَ﴾ ليس عائداً على من، بخلاف الضمير في ﴿يُؤْمِن﴾، ﴿وَيَعْمَلْ﴾، و﴿يُدْخِلْهُ﴾، وإنما هو عائد على مفعول ﴿يُدْخِلْهُ﴾، و﴿خَالِدِينَ﴾ حال منه، والعامل فيها ﴿يُدْخِلْهُ﴾ لا فعل الشرط.
﴿اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ : لا خلاف أن السموات سبع بنص القرآن والحديث، كما جاء في حديث الإسراء، ولقوله صلى الله عليه وسلّم لسعد :"حكمت بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة"، وغيره من نصوص الشريعة. وقرأ الجمهور :﴿مِثْلَهُنَّ﴾ بالنصب ؛ والمفضل عن عاصم، وعصمة عن أبي بكر : مثلُهن بالرفع فالنصب، قال الزمخشري : عطفاً على ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾. انتهى، وفيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف، وهو الواو، والمعطوف ؛ وهو مختص بالضرورة عند أبي عليّ الفارسي، وأضمر بعضهم العامل بعد الواو لدلالة ما قبله عليه، أي وخلق من الأرض مثلهن، فمثلهن مفعول للفعل المضمر لا معطوف، وصار ذلك من عطف الجمل والرفع على الابتداء، ﴿وَمِنَ الارْضِ﴾ الخبر، والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الأوصاف. فقال الجمهور : المثلية في العدد : أي مثلهن في كونها سبع أرضين. وفي الحديث :"طوقه من سبع أرضين"، ورب الأرضين السبع وما أقللن"، فقيل : سبع طباق من غير فتوق. وقيل : بين كل طبقة وطبقة مسافة. قيل : وفيها سكان من خلق الله. قيل : ملائكة وجن. وعن ابن عباس، من رواية الواقدي الكذاب، قال : في كل أرض آدم كآدم، ونوح كنوح، ونبي كنبيكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيسى، وهذا حديث لا شك في وضعه. وقال أبو صالح : إنها سبع أرضين منبسطة، ليس بعضها فوق بعض، تفرق بينها البحار، وتظل جميعها السماء.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٠
﴿يَتَنَزَّلُ الامْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ : من السموات السبع إلى الأرضين السبع. وقال مقاتل وغيره : الأمر هنا الوحي، فبينهن إشارة إلى بين هذه الأرض التي هي أدناها وبين السماء السابعة. وقال الأكثرون : الأمر : القضاء، فبينهن إشارة إلى بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل :﴿يَتَنَزَّلُ الامْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ بحياة وموت وغنى وفقر. وقىل : هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبير. وقرأ الجمهور :﴿يَتَنَزَّلُ﴾ مضارع تنزل. وقرأ عيسى وأبو عمر، وفي رواية : ينزل مضارع نزل مشدّداً، الأمر بالنصب ؛ والجمهور :﴿لِتَعْلَمُوا ﴾ بتاء الخطاب. وقرىء : بياء الغيبة، والله تعالى أعلم.
٢٨٧
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٠