قرأ نافع وأبو عمرو والبزي : بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفاً، وقنبل : بإبدال الأولى واواً لضمة ما قبلها، وعنه وعن ورش أوجه غير هذه ؛ والكوفيون وابن عامر بتحقيقهما. ﴿مَّن فِى السَّمَآءِ﴾ : هذا مجاز، وقد قام البرهان العقلي على أن تعالى ليس بمتحيز في جهة، ومجازه أن ملكوته في السماء لأن في السماء هو صلة من، ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه، وهو استقر، أي من في السماء هو، أي ملكوته، فهو على حذف مضاف، وملكوته في كل شيء. لكن خص السماء بالذكر لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأمره ونهيه، أو جاء هذا على طريق اعتقادهم، إذ كانوا مشبهة، فيكون المعنى : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء ؟ وهو المتعالي عن المكان. وقيل : من على حذف مضاف، أي خالق من في السماء. وقيل : من هم الملائكة. وقيل : جبريل، وهو الملك الموكل بالخسف وغيره. وقيل : من بمعنى على، ويراد بالعلو القهر والقدرة لا بالمكان، وفي التحرير : الاجماع منعقد على أنه ليس في السماء بمعنى الاستقرار، لأن من قال من المشبهة والمجسمة أنه على العرش لا يقول بأنه في السماء. ﴿أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الارْضَ﴾ وهو ذهابها سفلاً، ﴿فَإِذَا هِىَ تَمُورُ﴾ : أي تذهب أو تتموج، كما يذهب التراب في الريح. وقد تقدم شرح الحاصب في سورة الإسراء، والنذير والنكير مصدران بمعنى الإنذار والإنكار، وقال حسان بن ثابت :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٩٦
فأنذر مثلها نصحاً قريشامن الرحمن إن قبلت نذيرا
وأثبت ورش ياء نذيري ونكيري، وحذفها باقي السبعة. ولما حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب، نبههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها، وعن عجز آلهتهم عن شيء من ذلك، وناسب ذلك الاعتبار بالطير، إذ قد تقدمه ذكر الحاصب، وقد أهلك الله أصحاب الفيل بالطير والحاصب الذي رمتهم به، ففيه إذكار قريش بهذه القصة، وأنه تعالى لو شاء لأهلكهم بحاصب ترمي به الطير، كما فعل بأصحاب الفيل. ﴿صَـا فَّـاتٍ﴾ : باسطة أجنحتها صافتها حتى كأنها ساكنة، ﴿وَيَقْبِضْنَ﴾ : ويضممن الأجنحة إلى جوانبهن، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى. وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه، ومثله قوله تعالى :﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ﴾، عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى : فاللاتي أغرن صبحاً فأثرن، ومثل هذا العطف فصيح، وعكسه أيضاً جائز إلا عند السهيلي فإنه قبيح، نحو قوله :
بات يغشيها بغضب باتريقصد في أسوقها وجائر
أي : قاصد في أسوقها وجائر. وقال الزمخشري :﴿صَـا فَّـاتٍ﴾ : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً، ﴿وَيَقْبِضْنَ﴾ : ويضمنها إذا ضربن بها جنوبهن. فإن قلت : لم قيل ﴿وَيَقْبِضْنَ﴾، ولم يقل : وقابضات ؟ قلت : أصل الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها. وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة، كما يكون من السابح. انتهى. وملخصه أن الغالب هو البسط، فكأنه هو الثابت، فعبر عنه بالاسم. والقبض متجدد، فعبر عنه بالفعل بـ ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَـانُ﴾ : أي بقدرته. قال الزمخشري : وبما دبر لهن من القوادم والخوافي، وبنى الأجسام على شكل وخصائص قد يأتي منها الجري في الجو ﴿إِنَّه بِكُلِّ شَىْءا بَصِيرٌ﴾ : يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب. انتهى، وفيه نزوع إلى قول
٣٠٢
أهل الطبيعة. ونحن نقول : إن أثقل الأشياء إذا أراد إمساكها في الهواء واستعلاءها إلى العرش كان ذلك، وإذا أراد إنزال ما هو أخف سفلاً إلى منتهى ما ينزل كان، وليس ذلك معذوقاً بشكل، لا من ثقل ولا خفة. وقرأ الجمهور : ما يمسكهن مخففاً. والزهري مشدداً. وقرأ الجمهور :﴿مِن﴾، بإدغام ميم أم في ميم من، إذ الأصل أم من، وأم هنا بمعنى بل خاصة لأن الذي بعدها هو اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء، وهذا خبر، والمعنى : من هو ناصركم إن ابتلاكم بعذابه ؛ وكذلك من هو رازقكم أن أمسك رزقه، والمعنى : لا أحد ينصركم ولا يرزقكم. وقرأ طلحة : أمن بتخفيف الميم ونقلها إلى الثانية كالجماعة. قال صاحب اللوامح : ومعناه : أهذا الذي هو جند لكم ينصركم، أم الذي يرزقكم ؟ فلفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التقريع والتوبيخ. انتهى. ﴿بَل لَّجُّوا ﴾ : تمادوا، ﴿فِى عُتُوٍّ﴾ : في تكبر وعناد، ﴿وَنُفُورٍ﴾ : شراد عن الحق لثقله عليهم. وقيل : هذا إشارة إلى أصنامهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٩٦


الصفحة التالية
Icon