﴿أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ﴾، قال قتادة نزلت مخبرة عن حال القيامة، وأن الكفار يمشون فيها على وجوههم، والمؤمنون يمشون على استقامة. وقيل للنبي صلى الله عليه وسلّم : كيف يمشى الكافر على وجهه ؟ فقال :"إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر أن يمشيه في الآخرة على وجهه". فالمشي على قول قتادة حقيقة. وقيل : هو مجاز، ضرب مثلاً للكافر والمؤمن في الدنيا. فقيل : عام، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك، نزلت فيهما. وقال ابن عباس أيضاً : نزلت في أبي جهل والرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل : في أبي جهل وحمزة، والمعنى أن الكافر في اضطرابه وتعسفه في عقيدته وتشابه الأمر عليه، كالماضي في انخفاض وارتفاع، كالأعمى يتعثر كل ساعة فيخر لوجهه. وأما المؤمن، فإنه لطمأنينة قلبه بالإيمان، وكونه قد وضح له الحق، كالماشي صحيح البصر مستوياً لا ينحرف على طريق واضح الاستقامة لا حزون فيها، فآلة نظره صحيحة ومسلكه لا صعوبة فيه. و﴿مُكِبًّا﴾ : حال من أكب، وهو لا يتعدى، وكب متعد، قال تعالى :﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ﴾، والهمزة فيه للدخول في الشيء أو للصيرورة، ومطاوع كب انكب، تقول : كببته فانكب. وقال الزمخشري : ولا شيء من بناء افعل مطوعاً، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه، وهذا الرجل كثير التبجح بكتاب سيبويه، وكم من نص في كتاب سيبويه عمى بصره وبصيرته حتى أن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتاباً يذكر فيه ما غلط فيه الزمخشري وما جهله من نصوص كتاب سيبويه. وأهدي : افعل تفضيل من الهدى في الظاهر، وهو نظير : العسل أحلى أم الخل ؟ وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سوياً على صراط مستقيم أهدى. وانتصب ﴿قَلِيلا﴾ على أنه نعت لمصدر محذوف، وما زائدة، وتشكرون مستأنف أو حال مقدرة، أي تشكرون شكراً قليلاً. وقال ابن عطية : ظاهر أنهم يشكرون قليلاً، وما عسى أن يكون للكافرين شكر، وهو قليل غير نافع. وأما أن يريد به نفي الشكر جملة فعبر بالقلة، كما تقول العرب : هذه أرض قلّ ما تنبت كذا، وهي لا تنبته ألبتة. انتهى. وتقدم نظير قوله والرد عليه في ذلك. ﴿ذَرَأَكُمْ﴾ : بثكم، والحشر : البعث، والوعد المشار إليه هو وعد يوم القيامة، أي متى إنجاز هذا الوعد ؟.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٩٦
﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً﴾ : أي رأوا العذاب وهو الموعود به، ﴿زُلْفَةً﴾ : أي قرباً، أي ذا قرب. وقال الحسن : عياناً. وقال ابن زيد : حاضراً. وقيل : التقدير مكاناً ذا زلفة، فانتصب على الظرف. ﴿سَيِّاَاتُ﴾ : أي ساءت رؤيته وجوههم، وظهر فيها السوء والكآبة، وغشيها السواد كمن يساق إلى القتل. وأخلص الجمهور كسرة السين، وأشمها الضم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع والكسائي. ﴿وَقِيلَ﴾ لهم، أي تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم. وقرأ الجمهور :﴿تَدْعُونَ﴾ بشد الدال مفتوحة، فقيل : من
٣٠٣
الدعوى. قال الحسن : تدعون أنه لا جنة ولا نار. وقيل : تطلبون وتستعجلون، وهو من الدعاء، ويقوي هذا القول قراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار عبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب : تدعون بسكون الدال، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع. روي أن الكفار كانوا يدعون على الرسول صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بالهلاك. وقيل : كانوا يتآمرون بينهم بأن يهلكوهم بالقتل ونحوه، فأمر أن يقول :﴿إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ﴾ كما تريدون، ﴿أَوْ رَحِمَنَا﴾ بالنصر عليكم، فمن يحميكم من العذاب الذي سببه كفركم ؟ ولما قال :﴿أَوْ رَحِمَنَا﴾ قال :﴿هُوَ الرَّحْمَانُ﴾، ثم ذكر ما به النجاة وهو الإيمان والتفويض إلى الله تعالى. وقرأ الجمهور :﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ بتاء الخطاب، والكسائي : بياء الغيبة نظراً إلى قوله :﴿فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ﴾.
ولما ذكر العذاب، وهو مطلق، ذكر فقد ما به حياة النفوس وهو الماء، وهو عذاب مخصوص. والغور مشروح في الكهف، والمعين في قد أفلح، وجواب ﴿إِنْ أَهْلَكَنِىَ﴾ :﴿فَمَن يُجِيرُ﴾، وجواب ﴿إِنْ أَصْبَحَ﴾ :﴿فَمَن يَأْتِيكُم﴾، وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فقال : تجيء به الفوس والمعاويل، فذهب ماء عينيه.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٩٦


الصفحة التالية
Icon