المبالغة، ثم جاء :﴿مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾، فمناع وأثيم صفتا مبالغة، والظاهر أن الخير هنا يراد به العموم فيما يطلق عليه خير. وقيل : الخير هنا المال، يريد مناع للمال عبر به عن الشح، معناه : متجاوز الحد في الظلم. وفي حديث شداد بن أوس قلت : يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. وما العتل الزنيم ؟ قال : الرحيب الجوف، الوتير الخلق، الأكول الشروب، الغشوم الظلوم. وقرأ الحسن : عتل برفع اللام، والجمهور : بجرها بعد ذلك. وقال الزمخشري : جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشىء منها، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده"، وبعد ذلك نظير ثم في قوله :﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾. وقرأ الحسن : عتل رفعاً على الذم، وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك. انتهى. وقال ابن عطية :﴿بَعْدَ ذَالِكَ﴾ : أي بعد أن وصفناه به، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف، وإلا فكونه عتلاً هو قبل كونه صاحب خبر يمنعه. انتهى. والزنيم : الملصق في القوم وليس منهم، قاله ابن عباس وغيره. وقيل : الزنيم : المريب القبيح الأفعال، وعن ابن عباس أيضاً : الزنيم : الذي له زنمة في عنقه كزنمة الشاة، وما كنا نعرف المشار إليه حتى نزلت فعرفناه بزنمته. انتهى. وروي أن الأخفش بن شريف كان بهذه الصفة، كان له زنمة. وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بالزنمة. وعنه أيضاً : أنه المعروف بالابنة. وعنه أيضاً : أنه الظلوم. وعن عكرمة : هو اللئيم. وعن مجاهد وعكرمة وابن المسيب : أنه ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم، وكان الوليد دعيا في قريش ليس من منحهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده. وقال مجاهد : كانت له ستة أصابع في يده، في كل إبهام أصبع زائدة، والذي يظهر أن هذه الأوصاف ليست لمعين. ألا ترى إلى قوله :﴿كُلَّ حَلافٍ﴾، وقوله :﴿إِنَّا بَلَوْنَـاهُمْ﴾ ؟ فإنما وقع النهي عن طواعية من هو بهذه الصفات.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٠٤
قال ابن عطية ما ملخصه، قرأ النحويان والحرميان وحفص وأهل المدينة :﴿أَن كَانَ﴾ على الخبر ؛ وباقي السبعة والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر : على الاستفهام ؛ وحقق الهمزتين حمزة، وسهل الثانية باقيهم. فأما على الخبر، فقال أبو علي الفارسي : يجوز أن يعمل فيها عتل وأن كان قد وصف. انتهى، وهذا قول كوفي، ولا يجوز ذلك عند البصريين. وقيل :﴿زَنِيمٍ﴾ لا سيما على قول من فسره بالقبيح الأفعال. وقال الزمخشري : متعلق بقوله :﴿وَلا تُطِعْ﴾، يعنى ولا تطعه مع هذه المثالب، ﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ﴾ : أي ليساره وحظه من الدنيا، ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين، كذب آياتنا ولا يعمل فيه، قال الذي هو جواب إذا، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب. انتهى. وأما على الاستفهام، فيحتمل أن يفسر عامل يدل عليه ما قبله، أي أيكون طواعية لأن كان ؟ وقدره الزمخشري : أتطيعه لأن كان ؟ أو عامل يدل عليه ما قبله، أي أكذب أو جحد لأن كان ؟ وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه : إن كان بكسر الهمزة. قال الزمخشري : والشرط للمخاطب، أي لا تطع كل حلاف شارطاً يساره، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه، فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الرجاء إليه في قوله :﴿أَوْ يَذَّكَّرُ﴾. انتهى. وأقوال : إن كان شرط، وإذا تتلى شرط، فهو مما اجتمع فيه شرطان، وليسا من الشروط المترتبة الوقوع، فالمتأخر لفظاً هو المتقدم، والمتقدم لفظاً هو شرط في الثاني، كقوله :
فإن عثرت بعدها إن والتنفسي من هاء تاء فقولا لها لها
لأن الحامل على ترك تدبر آيات الله كونه ذا مال وبنين، فهو مشغول القلب، فذلك غافل عن النظر
٣١٠
والفكر، قد استولت عليه الدنيا وأبطرته. وقرأ الحسن : أئذا على الاستفهام، وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله القرآن أساطير الأولين لما تليت عليه آياته الله. ولما ذكر قبائح أفعاله وأقواله، ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد فقال :﴿سَنَسِمُه عَلَى الْخُرْطُومِ﴾، والسمة : العلامة. ولما كان الوجه أشرف ما في الإنسان، والأنف أكرم ما في الوجه لتقدمه، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية، واشتقوا منه الأنفة وقالوا : حميّ الأنف شامخ العرنين. وقالوا في الذليل : جدع أنفه، ورغم أنفه. وكان أيضاً مما تظهر السمات فيه لعلو، قال :﴿سَنَسِمُه عَلَى الْخُرْطُومِ﴾، وهو غاية الإذلال والإهانة والاستبلاد، إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف، وإذا كان الوسم في الوجه شيناً، فكيف به على أكرم عضو فيه ؟ وقد قيل : الجمال في الأنف، وقال بعض الأدباء :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٠٤