قوله عز وجل :﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّـاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَـابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَـانٌ عَلَيْنَا بَـالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِا إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَالِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُوا بِشُرَكَآاِهِمْ إِن كَانُوا صَـادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَـاشِعَةً أَبْصَـارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌا وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَـالِمُونَ * فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـاذَا الْحَدِيثِا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُم إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ * أَمْ تَسْـاَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَّوْلا أَن تَدَارَكَه نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِا لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَـاهُ رَبُّه فَجَعَلَه مِنَ الصَّـالِحِينَ * وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّه لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ﴾.
لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة، أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون، فقال :﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ : أي الكفر، ﴿جَنَّـاتِ النَّعِيمِ﴾ : أضافها إلى النعيم، لأن النعيم لا يفارقها، إذ ليس فيها إلا هو، فلا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا.
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش : إن كان ثم جنة فلنا فيها أكثر الحظ، فنزلت :﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾. وقال مقاتل : قالوا فضلنا الله عليكم في الدنيا، فهو يفضلنا عليكم في الآخرة، وإلا فالمشاركة، فأجاب تعالى :﴿أَفَنَجْعَلُ﴾ : أي لا يتساوى المطيع والعاصي، هو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ. ثم التفت إليهم فقال :﴿مَا لَكُمْ﴾، أي : أي شيء لكم فيما تزعمون ؟ وهو استفهام إنكار عليهم. ثم قال :﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾، وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم، استفهم عن هيئة حكمهم. ففي قوله :﴿مَا لَكُمْ﴾ استفهام عن كينونة مبهمة، وفي ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ استفهام عن هيئة حكمهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٠٤
ثم أضرب عن هذا إضراب انتقال لشيء آخر لا إبطال لما قبله فقال :﴿أَمْ لَكُمْ﴾، أي : بل ألكم ؟ ﴿كِتَـابٌ﴾، أي من عند الله، ﴿تَدْرُسُونَ﴾ أن ما تختارونه يكون لكم. وقرأ الجمهور :﴿إِنَّ لَكُمْ﴾ بكسر الهمزة، فقيل هو استئناف قول على معنى : إن لكم كتاب فلكم فيه متخير. وقيل : أن معمولة لتدرسون، أي تدرسون في الكتاب أن لكم، ﴿لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾ : أي تختارون من النعيم، وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة، قاله الزمخشري وبدأ به وقال : ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو، كقوله :﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخِرِينَ * سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ﴾. انتهى. وقرأ طلحة والضحاك : أن لكم بفتح الهمزة، واللام في لما زائدة كهي في قراءة من قرأ الا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم. وقرأ الأعرج : أإن لكم على الاستفهام.
﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَـانٌ﴾ : أي أقسام علينا، ﴿بَـالِغَةٌ﴾ : أي متناهية في التوكيد. يقال : لفلان عليّ يمين إذا حلفت له على الوفاء بما حلفت عليه، وإلى يوم القيامة متعلق بما تعلق به الخبر وهو لكم، أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة، أو ببالغة : أي تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إلىه. وقرأ الجمهور :﴿بَـالِغَةٌ﴾ بالرفع على الصفة، والحسن وزيد بن علي : بالنصب على الحال من الضمير المستكن في علينا. وقال ابن عطية : حال من نكرة لأنها مخصصة تغليباً. ﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ : جواب القسم، لأن معنى ﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَـانٌ عَلَيْنَا﴾ : أم أقسمنا لكم، قاله الزمخشري. وقرأ الأعرج : أإن لكم عليّ، كالتي قبلها على الاستفهام. ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَالِكَ زَعِيمٌ﴾ : أي ضامن بما يقولونه ويدعون صحته، وسل معلقة عن مطلوبها الثاني، لما كان السؤال سبباً لحصول العلم جاز تعليقه كالعلم، ومطلوبها الثاني أصله أن يعدى بعن أو بالباء، كما قال تعالى :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾، وقال الشاعر :
فإن تسألوني بالنساء فإننيعليم بأدواء النساء طبيب


الصفحة التالية
Icon