قوله عز وجل :﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِيَمِينِهِا فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ * إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَـاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِياَا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى الايَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِشِمَالِهِا فَيَقُولُ يَـالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَـالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْا * هَلَكَ عَنِّى سُلْطَـانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَا سْلُكُوهُ * إِنَّه كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَـاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُا إِلا الْخَـاطِـاُونَ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣١٨
أما : حرف تفصيل فصل بها ما وقع في يوم العرض. ويظهر أن من قضى عليه دخول النار من الموحدين، أنه في يوم العرض يأخذ
٣٢٤
كتابه بيمينه مع الناجين من النار، ويكون ذلك يأنس به مدة العذاب. وقيل : لا يأخذه حتى يخرج من النار، وإيمانه أنيسه مدة العذاب. قيل : وهذا يظهر لأن من يسار به إلى النار كيف يقول :﴿هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ﴾ ؟ وهل هذا إلا استبشار وسرور ؟ فلا يناسب دخول النار. وهاؤم إن كان مدلولها خذ، فهي متسلطة على كتابيه بغير واسطة، وإن كان مدلولها تعالوا، فهي متعدية إليه بواسطة إلى، وكتابيه يطلبه هاؤم واقرؤا. فالبصريون يعملون اقرؤا، والكوفيون يعملون هاؤم، وفي ذلك دليل على جواز التنازع بين اسم الفعل والقسم. وقرأ الجمهور :﴿كِتَـابِيَهْ﴾، و﴿حِسَابِيَهْ﴾ في موضعيهما و﴿مَالِيَهْ﴾ و﴿سُلْطَـانِيَهْ﴾، وفي القارعة : بإثبات هاء السكت وقفاً ووصلاً لمراعاة خط المصحف. وقرأ ابن محيصن : بحذفها وصلاً ووقفاً وإسكان الياء، وذلك كتابي وحسابي ومالي وسلطاني، ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه في في القارعة ؛ وابن أبي إسحاق والأعمش : بطرح الهاء فيهما في الوصل لا في الوقف، وطرحهما حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف، وفتح الياء فيهن. وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس كما قال، بل ذلك منقول نقل التواتر فوجب قبوله.
﴿كِتَـابِيَهْ * إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَـاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ : أي أيقنت، ولو كان ظناً فيه تجويز لكان كفراً. ﴿فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ : ذات رضا. وقال أبو عبيدة والفراء : راضية مرضية كقوله :﴿مِن مَّآءٍ دَافِقٍ﴾، أي مدفوق. ﴿فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ : أي مكاناً وقدراً. ﴿قُطُوفُهَا﴾ : أي ما يجني منها، ﴿دَانِيَةٌ﴾ : أي قريبة التناول يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها. ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ : أي يقال، و﴿هَنِياَا ﴾، تقدم الكلام عليه في أول النساء. وقال الزمخشري : هنيئاً أكلاً وشرباً هنيئاً، أو هنيتم هنيئاً على المصدر. انتهى فقوله : أكلاً وشرباً هنيئاً يظهر منه جعل هنيئاً صفة لمصدرين، ولا يجوز ذلك إلا على تقدير الإضمار عند من يجيز ذلك، أي أكلاً هنيئاً وشرباً هنيئاً. ﴿بِمَآ أَسْلَفْتُمْ﴾ : أي قدمتم من العمل الصالح، ﴿فِى الايَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ : يعني أيام الدنيا. وقال مجاهد وابن جبير ووكيع وعبد العزيز بن رفيع : أيام الصوم، أي بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى. والظاهر العموم في قوله :﴿بِمَآ أَسْلَفْتُمْ﴾ : أي من الأعمال الصالحة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣١٨
﴿فَيَقُولُ يَـالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـابِيَهْ﴾ : لما رأى فيه قبائح أفعاله وما يصير أمره إليه، تمنى أنه لم يعطه، وتمنى أنه لم يدر حسابه، فإنه انجلى عنه حسابه عن ما يسوءه فيه، إذ كان عليه لا له. : أي الموتة التي متها في الدنيا، ﴿حِسَابِيَهْ * يَـالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ : أي القاطعة لأمري، فلم أبعث ولم أعذب ؛ أو يا ليت الحالة التي انتهيت إليها الآن كانت الموتة التي منها في الدنيا، حيث رأى أن حالته التي هو فيها أمر مما ذاقه من الموتة، وكيف لا وأمره آل إلى عذاب لا ينقطع ؟ ﴿مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ﴾ : يجوز أمن يكون نفياً محضاً، أخبر بذلك متأسفاً على ماله حيث لم ينفعه ؛ ويجوز أن يكون استفهاماً وبخ به نفسه وقررها عليه. ﴿هَلَكَ عَنِّى سُلْطَـانِيَهْ﴾ : أي حجتي، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي. وقال ابن زيد : يقول ذلك ملوك الدنيا. وكان عضد الدولة ابن نوية لما تسمى بملك الأملاك غلاب القدر لم يفلح وجن، فكان لا ينطلق لسانه إلا بقوله :﴿هَلَكَ عَنِّى سُلْطَـانِيَهْ﴾.