ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا :﴿وَأَنَّا لا نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الارْضِ﴾، وهو كفرهم بهذا النبي صلى الله عليه وسلّم، فينزل بهم الشر، ﴿أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾، فيؤمنون به فيرشدون. وحين ذكروا الشر لم يسندوه إلى الله تعالى، وحين ذكروا الرشد أسندوه إليه تعالى. ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّـالِحُونَ﴾ : أخبروا بما هم عليه من صلاح وغيره. ﴿وَمِنَّا دُونَ ذَالِكَ﴾ : أي دون الصالحين، ويقع دون في مواضع موقع غير، فكأنه قال : ومنا غير صالحين. ويجوز أن يريدوا : ومنادون ذلك في الصلاح، أي فيهم أبرار وفيهم من هو غير كامل في الصلاح، ودون في موضع الصفة لمحذوف، أي ومنا قوم دون ذلك. ويجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بمن، حتى في الجمل، قالوا : منا ظعن ومنا
٣٤٩
أقام، يريدون : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، والجملة من قوله :﴿كُنَّا طَرَآاِقَ قِدَدًا﴾ تفسير للقسمة المتقدمة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة : أهواء مختلفة، وقيل : فرقاً مختلفة. وقال الزمخشري : أي كنا ذوي مذاهب مختلفة، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة، أو كنا في طرائق مختلفة كقوله :
كما عسل الطريق الثعلب أو كانت طرائقنا قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه. انتهى. وفي تقديريه الأولين حذف المضاف من طرائق وإقامة المضاف إليه مقامه، إذ حذف ذوي ومثل. وأما التقدير الثالث، وهو أن ينتصب على إسقاط في، فلا يجوز ذلك إلا في الضرورة، وقد نص سيبويه على أن عسل الطريق شاذ، فلا يخرج القرآن عليه. ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ﴾ : أي أيقنا، ﴿فِى الارْضِ﴾ : أي كائنين في الأرض، ﴿وَلَن نُّعْجِزَه هَرَبًا﴾ : أي من الأرض إلى السماء، وفي الأرض وهرباً حالان، أي فارين أو هاربين. ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ﴾ : وهو القرآن، ﴿بِهِا إِنَّهُ﴾ : أي بالقرآن، ﴿فَمَنا يُؤْمِن بِرَبِّهِا فَلا يَخَافُ﴾ : أي فهو لا يخاف. وقرأ ابن وثاب والأعمش والجمهور :﴿فَلا يَخَافُ﴾، وخرجت قراءتهما على النفي. وقيل : الفاء زائدة ولا نفي وليس بشيء، وكان الجواب بالفاء أجود من المجيء بالفعل مجزوماً دون الفاء، لأنه إذا كان بالفاء كان إضمار مبتدأ، أي فهو لا يخاف. والجملة الاسمية أدل وآكد من الفعلية على تحقق مضمون الجملة. ﴿بَخْسًا﴾، قال ابن عباس : نقص الحسنات، ﴿وَلا رَهَقًا﴾، قال : زيادة في السيئات، ﴿وَلا رَهَقًا﴾، قيل : تحميل ما لا يطاق. وقال الزمخشري : أي جزاء بخس ولا رهق، لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا رهق ظلم أحد، فلا يخاف جزاءهما. ويجوز أن يراد : فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى، ولا أن ترهقه ذلة من قوله عز وجل :﴿تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾. انتهى. وقرأ الجمهور :﴿بَخْسًا﴾ بسكون الخاء ؛ وابن وثاب : بفتحها. ﴿وَمِنَّا الْقَـاسِطُونَ﴾ : أي الكافرون الجائزون عن الحق. قال مجاهد وقتادة : والبأس القاسط : الظالم، ومنه قول الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٤
قوم هم قتلوا ابن هند عنوةوهمو اقسطوا على النعمان
وجاء هذا التقسيم، وإن كان قد تقدم ﴿وَأَنَّا مِنَّا﴾، ومنا دون ذلك ليذكر حال الفريقين من النجاة والهلكة ويرغب من يدخل في الإسلام. والظاهر أن ﴿الْقَـاسِطُونَا فَمَنْ أَسْلَمَ﴾ إلى آخر الشرطين من كلام الجن. وقال ابن عطية : الوجه أن يكون ﴿فَمَنْ أَسْلَمَ﴾ مخاطبة من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم، وسلم ويؤيده ما بعد من الآيات. وقرأ الأعرج : رشداً، بضم الراء وسكون الشين ؛ والجمهور : بفتحهما. وقال الزمخشري : وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم، وكفى به وعيداً، أي فأولئك تحروا رشداً، فذكر سبب الثواب وموجبه، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال في قوله وموجبه.