ثم أمره تعالى أن يقول لهم ما يدل على تبرئه من القدرة على إيصال خير أو شر إليهم، وجعل الضر مقابلاً للرشد تعبيراً به عن الغي، إذ الغي ثمرته الضرر، يمكن أن يكون المعنى : ضراً ولا نفعاً ولا غياً ولا رشد، فحذف من كل ما يدل عليه مقابله. قرأ الأعرج : رشداً بضمتين. ولما تبرأ عليه السلام من قدرته على نفعهم وضرهم، أمر بأن يخبرهم بأنه مربوب لله تعالى، يفعل فيه ربه ما يريد، وأنه لا يمكن أن يجبره منه أحد، ولا يجد من دونه ملجأ يركن إليه، قال قريباً منه قتادة. وقال السدي : حرزاً. وقال الكلبي : مدخلاً في الأرض، وقيل : ناصراً، وقيل : مذهباً ومسلكاً، ومنه قول الشاعر :
يا لهف نفسي ونفسي غير مجديةعني وما من قضاء الله ملتحد
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٤
وقيل : في الكلام حذف وهو : قالوا له أترك ما ندعو إليه ونحن نجيرك، فقيل له : قل لن يجيرني. وقيل : هو جواب لقول وردان سيد الجن، وقد ازدحموا عليه، قال وردان : أنا أرحلهم عنك، فقال :
٣٥٣
إني لن يجبرني أحد، ذكره الماوردي. ﴿إِلا بَلَـاغًا﴾، قال الحسن : هو استثناء منقطع، أي لن يجيرني أحد، لكن إن بلغت رحمني بذلك. والإجارة للبلاغ مستعارة، إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته. وقيل على هذا المعنى : هو استثناء متصل، أي لن يجيرني في أحد، لكن لم أجد شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيزني الله، فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحداً وعلى البدل وهو الوجه، لأن ما قبله نفياً، وعلى البدل خرجه الزجاج. وقال أبو عبد الله الرازي : هذا الاستثناء منقطع، لأنه لم يقل : ولم أجد ملتحداً بل، قال :﴿مِن دُونِهِ﴾ ؛ والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت قوله :﴿مِن دُونِهِا مُلْتَحَدًا﴾ لأنه لا يكون من دون الله، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه. وقال قتادة : التقدير لا أملك إلا بلاغاً إليكم، فأما الإيمان والكفر فلا أملك. انتهى، وفيه بعد لطول الفصل بينهما. وقيل، إلا في تقدير الانفصال : إن شرطية ولا نافية، وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه، والتقدير : إن لم أبلغ بلاغاً من الله ورسالته، وهذا كما تقول : إن لا قياماً قعوداً، أي إن لم تقيم قياماً فاقعد قعوداً، وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالة عليه بعده أو قبله، كما حذف في قوله :
فطلقها فلست لها بكفءوإلا يعل مفرقك الحسام
التقدير : وإن لا تطقها، فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه، ومن لابتداء الغاية. وقال الزمخشري : تابعاً لقتادة، أي لا أملك إلا بلاغاً من الله، و﴿قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى﴾ : جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه على معنى إن الله إن أراد به سوأ من مرض أو موت أو غيرهما لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذاً يأوي إليه. انتهى. ﴿وَرِسَـالَـاتِهِا﴾، قيل : عطف على ﴿بَلَـاغًا﴾، أي إلا أن أبلغ عن الله، أو أبلغ رسالاته. الظاهر أن رسالاته عطف على الله، أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته. ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ : أي بالشرك والكفر، ويدل عليه قوله :﴿خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا﴾. وقرأ الجمهور :﴿فَإِنَّ لَهُ﴾ بكسر الهمزة. وقرأ طلحة : بفتحها، والتقدير : فجزاؤه أن له. قال ابن خالويه : وسمعت ابن مجاهد يقول : ما قرأ به أحد وهو لحن، لأنه بعد فاء الشرط. وسمعت ابن الأنباري يقول : هو ضراب، ومعناه : فجزاؤه أن له نار جهنم. انتهى. وكان ابن مجاهد إماماً في القراآت، ولم يكن متسع النقل فيها كابن شنبوذ، وكان ضعيفاً في النحو. وكيف يقول ما قرأ به أحد ؟ وهذا كطلحة بن مصرّف قرأ به. وكيف يقول وهو لحن ؟ والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر. وجمع ﴿خَـالِدِينَ﴾ على معنى من، وذلك بعد الحمل على لفظ من في قوله :﴿يَعْصِ﴾، ﴿فَإِنَّ لَهُ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٤


الصفحة التالية
Icon