﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا ﴾ : حتى هنا حرف ابتداء، أي يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر، ومع ذلك فيها معنى الغاية. قال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له ؟ قلت : بقوله ﴿يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾، على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ﴾ من يوم بدر، وإظهار الله له عليهم، أو من يوم القيامة، ﴿فَسَيَعْلَمُونَ﴾ حينئذ أنهم ﴿أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا﴾. ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده، كأنه لا يزالون على ما هم عليه ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ﴾. قال المشركون : متى يكون هذا الموعد إنكاراً له ؟ فقيل : قل إنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه، فإن الله قد وعد ذلك، وهو لا يخلف الميعاد. وأما وقته فلا أدري متى يكون، لأن الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة. انتهى. وقوله : بم تعلق إن ؟ عنى تعلق حرف الجر، فليس بصحيح لأنها حرف ابتداء، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج وابن
٣٥٤
درستوية، فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء، فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر ؛ وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها، وكون ما بعدها غاية لما قبلها، فهو صحيح. وأما تقديره أنها تتعلق بقوله :﴿يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾، فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة. وقال التبريزي : حتى جاز أن تكون غاية لمحذوف، ولم يبين ما المحذوف. وقيل : المعنى دعهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من الساعة، ﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا﴾، أهم أم أهل الكتاب ؟ والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم، كأنه قيل : إن العاصي يحكم له بكينونة النار لهم، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فسيعلمون. فقوله :﴿فَإِنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ﴾ هو وعيد لهم بالنار، ومن أضعف مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله، وهو معلق عنه لأن من استفهام. ويجوز أن تكون من موصولة في موضع نصب بسيعلمون، وأضعف خبر مبتدأ محذوف. والجملة صلة لمن، وتقديره : هو أضعف، وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصراً. قال مكحول : لم ينزل هذا إلا في الجن، أسلم منهم من وفق وكفر من خذل كالإنس، قال : وبلغ من تابع النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة الجن سبعين ألفاً، وفزعوا عند انشقاق الفجر. ثم أمره تعالى أن يقول لهم إنه لا يدري وقت طول ما وعدوا به، أهو قريب أم بعيد ؟.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٤
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله :﴿أَمْ يَجْعَلُ لَه رَبِّى أَمَدًا﴾، والأمد يكون قريباً وبعيداً ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُا أَمَدَا بَعِيدًا ﴾ ؟ قلت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستقرب الموعد، فكأنه قال :"ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية" ؟ أي هو عالم الغيب. ﴿فَلا يُظْهِرُ﴾ : فلا يطلع، و﴿مِن رَّسُولٍ﴾ تبيين لمن ارتضى، يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضي الذي هو مصطفى للنبوّة خاصة، لا كل مرتضي، وفي هذه إبطال للكرامات، لأن الذين تضاف إليهم، وإن كانوا أولياء مرتضين، فليسوا برسل. وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. انتهى. وقال ابن عباس :﴿عَـالِمُ الْغَيْبِ﴾، قال الحسن : ما غاب عن خلقه، وقيل : الساعة. وقال ابن عباس : إلا بمعنى لكن، فجعله استثناء منقطعاً. وقيل : إلا بمعنى ولا أي، ولا من ارتضى من رسول وعالم خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم الغيب، أو بدل من ربي. وقرىء : عالم بالنصب على المدح. وقال السدّي : علم الغيب، فعلاً ماضياً ناصباً، والجمهور : عالم الغيب اسم فاعل مرفوعاً. وقرأ الجمهور :﴿فَلا يُظْهِرُ﴾ من أظهر ؛ والحسن : يظهر بفتح الياء والهاء من ظهر، ﴿إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ : استثناء من أحداً، أي فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك، فإنه يسلك الله من بين يدي ذلك الرسول، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِا رَصَدًا﴾ : أي حفظة يحفظونه من الجن ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إلى ذلك الرسول من علم الغيب. وعن الضحاك : ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك.


الصفحة التالية
Icon