وسبب نزولها فيما ذكر الجمهور : أنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره، رجع إلى خديجة فقال :"زملوني زملوني"، فنزلت :﴿رَّحِيمُا * يَـا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾، وعلى هذا نزلت :﴿عَدَدَا * يَـا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾. قالت عائشة والنخعي وجماعة : ونودي بذلك لأنه كان في وقت نزول الآية متزملاً بكساء. وقال قتادة : كان تزمل في ثيابه للصلاة واستعد. فنودي على معنى : يا أيها المستعد للعبادة. وقال عكرمة : معناه المزمل للنبوة وأعبائها، أي المشمر المجد، فعلى هذا يكون التزمل مجازاً، وعلى ما سبق يكون حقيقة. وما رووا أن عائشة رضي الله عنها سئلت : ما كان تزميله ؟ قالت : كان مرطاً طوله أربع عشرة ذراعاً، نصفه عليّ وأنا نائمة، ونصفه عليه، إلى آخر الرواية ؛ كذب صراح، لأن نزول ﴿عَدَدَا * يَـا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ بمكة في أوائل مبعثة، وتزويجه عائشة كان بالمدينة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٥٨
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أن في آخر ما قبلها ﴿عَـالِمُ الْغَيْبِ﴾ الآيات، فأتبعه بقوله :﴿عَدَدَا * يَـا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾، إعلاماً بأنه صلى الله عليه وسلّم ممن ارتضاه من الرسل وخصه بخصائص وكفاه شر أعدائه.
وقرأ الجمهور :﴿الْمُزَّمِّلُ﴾، بشد الزاي وكسر الميم، أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي. وقرأ أبي : المتزمل على الأصل ؛ وعكرمة : بتخفيف الزاي. أي المزمل جسمه أو نفسه. وقرأ بعض السلف : بتخفيف الزاي وفتح الميم، أي الذي لف. وللزمخشري في كيفية نداء الله له بهذا الوصف كلام ضربت عن ذكره صفحاً، فلم أذكره في كتابي. وقال السهيلي : ليس المزمل باسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام يعرف به، وإنما هو مشتق من حالته التي كان التبس بها حالة الخطاب، والعرب إذا قصدت الملاطفة بالمخاطب تترك المعاتبة نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلّم لعليّ كرم الله وجهه وقد نام ولصق بجنبه التراب :"قم أبا تراب"، إشعاراً بأنه ملاطف له، فقوله :﴿عَدَدَا * يَـا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ فيه تأنيس وملاطفة.
وقرأ الجمهور :﴿قُمِ الَّيْلَ﴾، بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين ؛ وأبو السمال : بضمها اتباعا للحركة من القاف. وقرىء : بفتحها طلباً للتخفيف. قال ابن جني : الغرض بالحركة الهروب من التقاء الساكنين، فبأي حركة تحرك الحرف حصل الغرض، وقم طلب. فقال الجمهور : هو على جهة الندب، وقيل : كان فرضاً على الرسول خاصة، وقيل : عليه وعلى الجميع. قال قتادة : ودام عاماً أو عامين. وقالت عائشة : ثمانية أشهر، ثم رحمهم الله نزلت :﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ﴾ الآيات، فخفف عنهم ﴿قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا﴾. بين الاستثناء أن القيام المأمور به يستغرق جميع الليل، ولذلك صح الاستثناء منه، إذ لو كان غير مستغرق، لم يصح الاستثناء منه، واستغراق جميعه بالقيام على الدوام غير ممكن، لذلك استثى منه لراحة الجسد ؛ وهذا عند البصريين منصوب على الظرف، وإن استغرقه الفعل ؛ وهو عند الكوفيين مفعول به. وفي قوله :﴿إِلا قَلِيلا﴾ دليل على أن المستثنى قد يكون مبهم المقدار، كقوله :﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ في قراءة من نصب ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِّنكُمْ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٥٨
قال وهب بن منبه : القليل ما دون المعشار والسدس. وقال الكلبي ومقاتل :
٣٦٠