الثلث. وقيل : ما دون النصف، وجوزوا في نصفه أن يكون بدلاً من الليل ومن قليلاً. فإذا كان بدلاً من الليل، كان الاستثناء منه، وكان المأمور بقيامه نصف الليل إلا قليلاً منه. والضمير في منه وعليه عائد على النصف، فيصير المعنى : قم نصف الليل إلا قليلاً، أو انقص من نصف الليل قليلاً، أو زد على نصف الليل، فيكون قوله : أو انقص من نصف الليل قليًلا، تكراراً لقوله : إلا قليلاً من نصف الليل، وذلك تركيب غير فصيح ينزه القرآن عنه. قال الزمخشري : نصفه بدل من الليل، وإلا قليلاً استثناء من النصف، كأنه قال : قم أقل من نصف الليل. والضمير في منه وعليه للنصف، والمعنى : التخيير بين أمرين، بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين، وهما النقصان من النصف والزيادة عليه. انتهى. فلم يتنبه للتكرار الذي يلزمه في هذا القول، لأنه على تقديره : قم أقل من نصف الليل كان قوله، أو انقص من نصف الليل تكراراً. وإذا كان ﴿نِّصْفَهُا﴾ بدلاً من قوله :﴿إِلا قَلِيلا﴾، فالضمير في نصفه إما أن يعود على المبدل منه، أو على المستثنى منه وهو الليل، لا جائز أن يعود على المبدل منه، لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول، إذ التقدير إلا قليلاً نصف القليل، وهذا لا يصح له معنى البتة. وإن عاد الضمير على الليل، فلا فائدة في الاستثناء من الليل، إذ كان يكون أخصر وأوضح وأبعد عن الإلباس أن يكون التركيب قم الليل نصفه. وقد أبطلنا قول من قال : إلا قليلاً استثناء من البدل وهو نصفه، وأن التقدير : قم الليل نصفه إلا قليلاً منه، أي من النصف. وأيضاً ففي دعوى أن نصفه بدل من إلا قليًلا، والضمير في نصفه عائد على الليل، إطلاق القليل على النصف، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير : إلا نصفه فلا تقمه، أو انقص من النصف الذي لا تقومه، وأزد عليه النصف الذي لا تقومه، وهذا معنى لا يصح، وليس المراد من الآية قطعاً.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٥٨
وقال الزمخشري : وإن شئت جعلت نصفه بدلاً من قليلاً،
٣٦١
وكان تخييراً بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه ؛ وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل. وإن شئت قلت : لما كان معنى ﴿قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِّصْفَهُا﴾ : إذا أبدلت النصف من الليل، قم أقل من نصف الليل، رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف، فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل، وقم أنقص من ذلك إلا قل أو أزيد منه قليلاً، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث، ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلاً وفسرته به أن تجعل قليلاً الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع، كأنه قيل : أو انقص منه قليلاً نصفه، وتجعل المزيد على هذا القليل، أعني الربع نصف الربع، كأنه قيل : أو زد عليه قليلاً نصفه. ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث، فيكون تخييراً بين النصف والثلث والربع. انتهى. وما أوسع خيال هذا الرجل، فإنه يجوز ما يقرب وما يبعد، والقرآن لا ينبغي، بل لا يجوز أن يحمل إلا على أحسن الوجوه التي تأتي في كلام العرب، كما ذكرناه في خطبة هذا الكتاب. وممن نص على جواز أن يكون نصفه بدلاً من الليل أو من قليلاً الزمخشري، كما ذكرنا عنه. وابن عطية أورده مورد الاحتمال، وأبو البقاء، وقال : أشبه بظاهر الآية أن يكون بدلاً من قليلاً، أو زد عليه، والهاء فيهما للنصف. فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير : قم نصف الليل إلا قليلاً، أو انقص منه قليلاً. والقليل المستثنى غير مقدر، فالنقصان منه لا يتحصل. انتهى. وأما الحوفي فأجاز أن يكون بدلاً من الليل، ولم يذكر غيره.
قال ابن عطية : وقد يحتمل عندي قوله :﴿إِلا قَلِيلا﴾ أنه استثناء من القيام، فيجعل الليل اسم جنس. ثم قال :﴿إِلا قَلِيلا﴾، أي الليالي التي تخل بقيامها عند العذر البين ونحوه، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب. انتهى، وهذا خلاف الظاهر. وقيل : المعنى أو نصفه، كما تقول : أعطه درهماً درهمين ثلاثة، تريد : أو درهمين، أو ثلاثة. انتهى، وفيه حذف حرف العطف من غير دليل عليه. وقال التبريزي : الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل، لأن الثلث الأول وقت العتمة، والاستثناء وارد على المأمور به، فكأنه قال : قم ثلثي الليل إلا قليلاً، ثم جعل نصفه بدلاً من قليلاً، فصار القليل مفسراً بالنصف من الثلثين، وهو قليل من الكل. فقوله :﴿أَوِ انقُصْ مِنْهُ﴾ : أي من المأمور به، وهو قيام الثلث، ﴿قَلِيلا﴾ : أي ما دون نصفه، ﴿أَوْ زِدْا عَلَيْهِ﴾، أي على الثلثين، فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين. وقال أبو عبد الله الرازي : قد أكثر الناس في تفسيره هذه الآية، وعندي فيه وجهان ملخصان، وذكر كلاماً طويلاً ملفقاً يوقف عليه من كتابه. وتقدّم تفسير الترتيل في آخر الإسراء.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٥٨


الصفحة التالية
Icon