﴿كَمْ تَرَكُوا ﴾ : أي كثيراً تركوا. ﴿مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ : تقدم تفسيرهما في الشعراء. وقرأ الجمهور :﴿وَمَقَامٍ﴾، بفتح الميم. قال ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير : أراد المقام. وقرأ ابن هرمز، وقتادة، وابن السميفع، ونافع : في رواية خارجة بضمها. قال قتادة : أراد المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها. ﴿وَنَعْمَةٍ﴾، بفتح النون : نضارة العيش ولذاذة الحياة. وقرأ أبو رجاء :﴿وَنَعْمَةٍ﴾، بالنصب، عطفاً على كم ﴿كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ﴾. قرأ الجمهور : بألف، أي طيبي الأنفس وأصحاب فاكهة، كلابن، وتامر، وأبو رجاء، والحسن : بغير ألف. والفكه يستعمل كثيراً في المستخف المستهزىء، فكأنهم كانوا مستخفين بشكل النعمة التي كانوا فيها. وقال الجوهري : فكه الرجل، بالكسر، فهو فكه إذا كان مزاجاً، والفكه أيضاً الأشر. وقال القشيري : فاكهين : لاهين كذلك. وقال الزجاج : والمعنى : الأمر كذلك، فيوقف على كذلك ؛ والكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف ؛ وقيل : الكاف في موضع نصب، أي يفعل فعلاً كذلك، لمن يريد إهلاكه. وقال الكلبي : كذلك أفعل بمن عصاني. وقال الحوفي : أهلكنا إهلاكاً، وانتقمنا انتقاماً كذلك. وقال الزمخشري : الكاف منصوبة على معنى : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ﴾ ليسوا منهم، وهم بنوا إسرائيل. كانوا مستعبدين في يد القبط، فأهلك الله تعالى القبط على أيديهم وأورثهم ملكهم. وقال قتادة، وقال الحسن : إن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون، وضعف قول قتادة بأنه لم يرو في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان، ولا ملكوها قط ؛ إلا أن يريد قتادة أنهم ورثوا نوعها في بلاد الشأم. انتهى. ولا اعتبار بالتواريخ، فالكذب فيها كثير، وكلام الله صدق. قال تعالى في سورة الشعراء :﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ﴾ وقيل : قوماً آخرين ممن ملك مصر بعد القبط من غير بني إسرائيل. ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالارْضُ﴾ : استعارة لتحقير أمرهم، وأنه لم يتغير عن هلاكهم شيء. ويقال في التعظيم : بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس. وقال زيد بن مفرغ :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٠
الريح تبكي شجوهوالبرق يلمع في غمامه
وقال جرير :
فالشمس طالعة ليست بكاسفةتبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقال النابغة :
بكى حادث الجولان من فقد ربهوحوران منه خاشع متضائل
وقال جرير :
لما أتى الزهو تواضعتسور المدينة والجبال الخشع
ويقول في التحقير : مات فلان، فما خشعت الجبال. ونسبة هذه الأشياء لما لا يعقل ولا يصير ذلك منه حقيقة، عبارة عن تأثر الناس له، أو عن عدمه. وقيل : هو على حذف مضاف، أي : فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الملائكة وأهل الأرض، وهم المؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين. روي ذلك عن الحسن. وما روي عن علي، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير : إن المؤمن إذا مات، بكى عليه من
٣٦
الأرض موضع عبادته أربعين صباحاً، وبكى عليه السماء موضع صعود عمله. قالوا : فلم يكن في قوم فرعون من هذه حاله تمثيل. ﴿وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ : أي مؤخرين عن العذاب لما حان وقت هلاكهم، بل عجل الله لهم ذلك في الدنيا.