أي : لا منار له فيهتدي به. وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات وينتفع بها، ووردت أحاديث في صحة ذلك. ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ﴾ : وهي مواعظ القرآن التي تذكر الآخرة، ﴿مُعْرِضِينَ﴾ : أي والحال المنتظرة هذه الموصوفة. ثم شبههم بالحمر المستنفرة في شدة إعراضهم ونفارهم عن الإيمان وآيات الله تعالى. وقرأ الجمهور :﴿حُمُرٌ﴾ بضم الميم ؛ والأعمش : بإسكانها. قال ابن عباس : المراد الحمر الوحشية، شبههم تعالى بالحمر مذمة وتهجيناً لهم. وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم :﴿مُّسْتَنفِرَةٌ﴾ بفتح الفاء، والمعنى : استنفرها : فزعها من القسورة ؛ وباقي السبعة : بكسرها، أي نافرة نفر، واستنفر بمعنى عجب واستعجب وسر واستسخر، ومنه قول الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٦٨
أمسك حمارك إنه مستنفرفي إصر أحمرة عهدن لعرّب
ويناسب الكسر قوله :﴿فَرَّتْ﴾. وقال محمد بن سلام : سألت أبا سرار العتوي، وكان أعرابياً فصيحاً، فقلت : كأنهم حمر ماذا مستنفرة طردها قسورة ؟ فقلت : إنما هو ﴿فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة﴾، قال : أفرّت ؟ قلت : نعم، قال : فمستنفرة إذن. قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة : القسورة : الرماة. وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة وجمهور من اللغويين : الأسد. وقال ابن جبير : رجال
٣٨٠
القنص، وهو قريب من القول الأول، وقاله ابن عباس أيضاً. وقال ابن الأعرابي : القسورة أول الليل، والمعنى : فرّت من ظلمة الليل، ولا شيء أشدّ نفاراً من حمر الوحش، ولذلك شبهت بها العرب الإبل في سرعة سيرها وخفتها.
﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِى ٍ مِّنْهُمْ﴾ : أي من المعرضين عن عظات الله وآياته، ﴿أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً﴾ : أي منشورة غير مطوية تقرأ كالكتب التي يتكاتب بها، أو كتبت في السماء نزلت بها الملائكة ساعة كتبت رطبة لم تطو بعد، وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : لن نتبعك حتى يؤتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه : من رب العالمين إلى فلان بن فلان، يؤمر فيها باتباعك، ونحوه ﴿وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُا﴾. وروي أن بعضهم قال : إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل إنسان، فلتعرض تلك الصحف علينا، فنزلت هذه الآية. وقرأ الجمهور :﴿صُحُفًا﴾ بضم الصاد والحاء، ﴿مُّنَشَّرَةً﴾ مشدّداً ؛ وابن جبير : بإسكانها منشرة مخففاً، ونشر وأنشر مثل نزل وأنزل. شبه نشر الصحيفة بإنشار الله الموتى، فعبر عنه بمنشرة من أنشرت، والمحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففاً ثلاثياً، ويقال في الميت : أنشره الله فنشر هو، أي أحياه فحيي.
﴿كَلا﴾ : ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات، ﴿بَل لا يَخَافُونَ الاخِرَةَ﴾، ولذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف. وقرأ الجمهور :﴿يَخَافُونَ﴾ بياء الغيبة ؛ وأبو حيوة : بتاء الخطاب التفاتاً. ﴿كَلا﴾ : ردع عن إعراضهم عن التذكرة، ﴿كَلا إِنَّه تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ : ذكر في إنه وفي ذكره، لأن التذكرة ذكر. وقرأ نافع وسلام ويعقوب : تذكرة بتاء الخطاب ساكنة الذال ؛ وباقي السبعة وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى والأعرج : بالياء. وروي عن أبي حيوة : يذكرون بياء الغيبة وشد الذال. وروي عن أبي جعفر : تذكرون بالتاء وإدغام التاء في الذال. ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى ﴾ : أي أهل أن يتقي ويخاف، وأهل أن يغفر. وروى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم فسر هذه الآية فقال :"يقول لكم ربكم جلت قدرته وعظمته : أنا أهل أن أتقى، فلا يجعل يتقى إله غيري، ومن اتقى أن يجعل معي إلهاً غيري فأنا أغفر له". وقال الزمخشري : في قوله تعالى ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾، يعني : إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه، لأنهم مطبوع على قلوبهم معلوم أنهم لا يؤمنون إختياراً.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٦٨