﴿إِنَّا خَلَقْنَا الانسَـانَ﴾ : هو جنس بني آدم لأن آدم لم يخلق ﴿مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ : أخلاط، وهو وصف للنطفة. فقال ابن مسعود وأسامة بن زيد عن أبيه : هي العروق التي في النطفة. وقال ابن عباس ومجاهد والربيع : هو ماء الرجل وماء المرأة اختلطا في الرحم فخلق الإنسان منهما. وقال الحسن : اختلاط النطفة بدم الحيض، فإذا حبلت ارتفع الحيض. وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة وقتادة : أمشاج منتقلة من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى إنشائه إنساناً. وقال ابن عباس أيضاً والكلبي : هي ألوان النطفة. وقيل : أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء، والنطفة أريد بها الجنس، فلذلك وصفت بالجمع كقوله :﴿عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾، أو لتنزيل كل جزء من النطفة نطفة. وقال الزمخشري : نطفة أمشاج، كبرمة إعسار، وبرد أكياس، وهي ألفاظ مفرد غير جموع، ولذلك
٣٩٣
وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضاً : نطفة مشج، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيراً له، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما. انتهى. وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالاً لا يكون مفرداً. قال سيبويه : وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه. ﴿نَّبْتَلِيهِ﴾ : نختبره بالتكليف في الدنيا ؛ وعن ابن عباس : نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة، فعلى هذا هي حال مصاحبة، وعلى أن المعنى نختبره بالتكليف، فهي حال مقدرة لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتلياً له بالتكليف في ذلك الوقت. وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ناقلين له من حال إلى حال فسمي ذلك الابتلاء على طريق الاستعارة. انتهى. وهذا معنى قول ابن عباس. وقيل : نبتليه بالإيحان والكون في الدنيا، فهي حال مقارنة. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير الأصل. ﴿فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا﴾ نبتليه، أي جعله سميعاً بصيراً هو الابتلاء، ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير، والمعنى يصح بخلافه، وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين، وهما كناية عن التمييز والفهم، إذ آلتهما سبب لذلك، وهما أشرف الحواس، تدرك بهما أعظم المدركات.
ولما جعله بهذه المثابة، أخبر تعالى أنه هداه إلى السبيل، أي أرشده إلى الطريق، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك، إذ أرشدناه طريق الهدى. وقال مجاهد : سبيل السعادة والشقاوة. وقال السدي : سبيل الخروج من الرحم. وقال الزمخشري : أي مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً، وإذ دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة. انتهى، وهو على طريق الإلتزام. وقرأ الجمهور :﴿أَمَّآ﴾ بكسر الهمزة فيهما ؛ وأبو السمال وأبو العاج، وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك : بفتحها فيهما، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف وأنشدوا :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٩١
يلحقها إما شمال عريةوإما صبا جنح العشي هبوب
وقال الزمخشري : وهي قراءة حسنة، والمعنى : إما شاكراً بتوفيقنا، وإما كفوراً فبسوء اختياره. انتهى. فجعلها إما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط، ولذلك تلقاها بفاء الجواب، فصار كقول العرب : إما صديقاً فصديق ؛ وانتصب شاكراً وكفوراً على الحال من ضمير النصب في ﴿هَدَيْنَـاهُ﴾. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا حالين من السبيل، أي عرفناه السبيل، إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً، كقوله :﴿وَهَدَيْنَـاهُ النَّجْدَينِ﴾، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً. انتهى. ولما كان الشكر قل من يتصف به قال شاكراً : ولما كان الكفر كثر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر جاء كفوراً بصيغة المبالغة. ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد. وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة :﴿سَلَـاسِلا﴾ ممنوع الصرف وقفاً ووصلاً. وقيل عن حمزة وأبي عمر : الوقف بالألف. وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف، واختلف عنهم في الوقف، وكذا عن البزي. وقرأ باقي السبعة : بالتنوين وصلاً وبالألف المبدلة منه وقفاً، وهي قراءة الأعمش، قيل : وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وهي لغة الشعراء، ثم كثر حتى جرى في كلامهم، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا : صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار، أشبه المفرد فجرى فيه الصرف، وقال بعض الرجاز :
والصرف في الجمع أتى كثيراحتى ادعى قوم به التخييرا
والصرف ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة، وفي مصحف أبي وعبد الله، وكذا قوارير. وروى هشام عن ابن عامر : سلاسل في الوصل، وسلاسلاً بألف دون تنوين في
٣٩٤