هذه السورة مكية. وحكي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل أن فيها آية مدنية وهي :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدّاً، وهو أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذب الظالمين، فهذا وعد منه صادق، فأقسم على وقوعه في هذه فقال :﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾. ولما كان المقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها، وقع الخلاف في تعيين تلك الموصوفات. فقال ابن مسعود وأبو هريرة وأبو صالح ومقاتل والفرّاء :﴿وَالْمُرْسَلَـاتِ﴾ : الملائكة، أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي، فبالتعاقب على العباد طرفي النهار. وقال ابن عباس وجماعة : الأنبياء،
٤٠٣
ومعنى عرفاً : إفضالاً من الله تعالى على عباده، ومنه قول الشاعر :
لا يذهب العرف بين الله والناس
وانتصابه على أنه مفعول له، أي أرسلن للإحسان والمعروف، أو متتابعة تشبيهاً بعرف الفرس في تتابع شعره وأعراف الخيل. وتقول العرب : الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه متتابعين، وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه، وانتصابه على الحال. وقال ابن مسعود أيضاً وابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة : الرّياح. وقال الحسن : السحاب. وقرأ الجمهور :﴿عُرْفًا﴾ بسكون الراء، وعيسى : بضمها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٢
﴿فَالْعَـاصِفَـاتِ﴾، قال ابن مسعود : الشديدات الهبوب. وقيل : الملائكة تعصف بأرواح الكفار، أي تزعجها بشدّة، أو تعصف في مضيها كما تعصف الرّياح تحققاً في امتثال أمره. وقيل : هي الآيات المهلكة، كالزلازل والصواعق والخسوف. ﴿وَالنَّـاشِرَاتِ﴾، قال السدّي وأبو صالح ومقاتل : الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال. وقال الربيع : الملائكة تنشر الناس من قبورهم. وقال ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة : الرّياح تنشر رحمة الله ومطره. وقال أبو صالح : الأمطار تحيي الأرض بالنبات. وقال الضحاك : الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد، فعلى هذا تكون الناشرات على معنى النسب، أي ذات النشر. ﴿فَالْفَـارِقَـاتِ﴾، قال ابن عباس وابن مسعود وأبو صالح ومجاهد والضحاك : الملائكة تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام. وقال قتادة والحسن وابن كيسان : آيات القرآن فرقت بين الحلال والحرام. وقال مجاهد أيضاً : الرّياح تفرق بين السحاب فتبدّده. وقيل : الرسل، حكاه الزجاج. وقيل : السحاب الماطر تشبيهاً بالناقة الفاروق، وهي الحامل التي تجزع حين تضع. وقيل : العقول تفرق بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد. ﴿فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا﴾، قال ابن عباس وقتادة والجمهور : الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال قطرب : الرسل تلقي ما أنزل عليها إلى الأمم. وقال الرّبيع : آيات القرآن ألقيت على النبي صلى الله عليه وسلّم.
واختار الزمخشري من الأقوال أن تكون ﴿وَالْمُرْسَلَـاتِ﴾ إلى آخر الأوصاف : إما للملائكة، وإما للرّياح. فللملائكة تكون عذراً للمحققين، أو نذراً للمبطلين ؛ وللرّياح يكون المعنى : فألقين ذكراً، إما عذراً للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها، وإما إنذاراً للذين يغفلون عن الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء، وجعلن ملقيات للذكر لكونهن سبباً في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن، أو كفرت، قاله الزمخشري. والذي أراه أن المقسم به شيئان، ولذلك جاء العطف بالواو في ﴿وَالنَّـاشِرَاتِ﴾، والعطف بالواو يشعر بالتغاير، بل هو موضوعه في لسان العرب. وأما العطف بالفاء إذا كان في الصفات، فيدل على أنها راجعة إلى العاديات، وهي الخيل ؛ وكقوله :
يا لهف زيابة للحارث فالصابح فالغانم فالآيب
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٢
فهذه راجعة لموصوف واحد وهو الحارث. فإذا تقرر هذا، فالظاهر أنه أقسم أولاً بالرياح، فهي مرسلاته تعالى، ويدل عليه عطف الصفة بالفاء، كما قلنا، وأن العصف من صفات الريح في عدّة مواضع من القرآن. والقسم الثاني فيه ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة، ويكون ﴿فَالْفَـارِقَـاتِ﴾، ﴿فَالْمُلْقِيَـاتِ﴾ من صفاتهم، كما قلنا في عطف الصفات وإلقاؤهم الذكر، وهو ما أنزل الله، يصح إسناده إليهم. وقرأ الجمهور :﴿فَالْمُلْقِيَـاتِ﴾ اسم فاعل خفيف، أي نطرقه إليهم ؛ وابن عباس : مشدد من التلقية، وهي أيضاً إيصال الكلام إلى المخاطب. يقال : لقيته الذكر فتلقاه. وقرأ أيضاً ابن عباس، فيما ذكره المهدوي : بفتح اللام والقاف مشددة اسم مفعول، أي تلقته من قبل الله تعالى.
وقرأ إبراهيم التيمي
٤٠٤


الصفحة التالية
Icon