الأولين والآخرين، ذكر ووقف على أصل الخلقة التي يقتضي النظر فيها تجويز البعث، ﴿مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ : أي ضعيف هو مني الرجل والمرأة، ﴿فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ : وهو الرحم، ﴿إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ : أي عند الله تعالى، وهو وقت الولادة. وقرأ عليّ بن أبي طالب : فقدرنا بشد الدال من التقدير، كما قال :﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَه فَقَدَّرَهُ﴾ ؛ وباقي السبعة : بخفها من القدرة ؟ وانتصب ﴿أَحْيَآءً وَأَمْوَاتًا﴾ بفعل يدل عليه ما قبله، أي يكفت أحياء على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. واستدل بهذا من قال : إن النباش يقطع، لأن بطن الأرض حرز للكفن، فإذا نبش وأخذ منه فهو سارق. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : نكفتكم أحياء وأمواتاً، فينتصبا على الحال من الضمير لأنه قد علم أنها كفات الإنس. انتهى. و﴿رَوَاسِىَ﴾ : جبالاً ثابتات، ﴿شَـامِخَـاتٍ﴾ : مرتفعات، ومنه شمخ بأنفه : ارتفع، شبه المعنى بالجرم. ﴿وَأَسْقَيْنَـاكُم﴾ : جعلناه سقياً لمزراعكم ومنافعكم.
﴿انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِا تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَـاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ﴾. يقال للمكذبين :﴿انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِا تُكَذِّبُونَ﴾ : أي من العذاب. ﴿انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ﴾ : أمر، قراءة الجمهور تكراراً أو بيان للمنطلق إليه. وقرأ رويس عن يعقوب : بفتح اللام على معنى الخبر، كأنهم لما أمروا امتثلوا فانطلقوا، إذ لا يمكنهم التأخير، إذ صاروا مضطرين إلى الانطلاق ؛ ﴿ذِى ثَلَـاثِ شُعَبٍ﴾، قال عطاء : هو دخان جهنم. وروي أنه يعلو من ثلاثة مواضع، يظن الكفار أنه مغن من النار، فيهرعون إليه فيجدونه على أسوإ وصف. وقال ابن عباس :
٤٠٦
يقال ذلك لعبدة الصليب. فالمؤمنون في ظل الله عز وجل، وهم في ظل معبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب، والشعب : ما تفرق من جسم واحد. ﴿لا ظَلِيلٍ﴾ : نفي لمحاسن الظل، ﴿وَلا يُغْنِى﴾ : أي ولا يغني عنهم من حر اللهب شيئاً. ﴿إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ﴾ : الضمير في إنها لجهنم. وقرأ الجمهور :﴿بِشَرَرٍ﴾، وعيسى : بشرار بألف بين الراءين، وابن عباس وابن مقسم كذلك، إلا أنه كسر الشين، فاحتمل أن يكون جمع شرر، أي بشرار من العذاب، وأن يكون صفة أقيمت مقام موصوفها، أي بشرار من الناس، كما تقول : قوم شرار جمع شر غير أفعل التفضيل، وقوم خيار جمع خير غير أفعل التفضيل ؛ ويؤنث هذا فيقال للمؤنث شرة وخيره بخلافهما، إذا كانا للتفضيل، فلهما أحكام مذكورة في النحو. وقرأ الجمهور :﴿كَالْقَصْرِ﴾ ؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحسن وابن مقسم : بفتح القاف والصاد ؛ وابن جبير أيضاً والحسن أيضاً : كالقصر، بكسر القاف وفتح الصاد ؛ وبعض القراء : بفتح القاف وكسر الصاد ؛ وابن مسعود : بضمهما، كأنه مقصور من القصور، كما قصروا النجم والنمر من النجوم والنمور، قال الراجز :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٢
فيها عنابيل أسود ونمر
وتقدم شرح أكثر هذه القراآت في المفردات. وقرأ الجمهور، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : بكسر الجيم وبالألف والتاء، جمع جمال جمع الجمع وهي الإبل، كقولهم : رجالات قريش ؛ وابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء : بخلاف عنهم كذلك، إلا أنهم ضموا الجيم، وهي جمال السفن، الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات والقوى، ثم جمع على جمل وجمال، ثم جمع جمال ثانياً جمع صحة فقالوا : جمالات. وقيل : الجمالات : قلوص الجسور. وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي، وهارون عنه : جمالة بكسر الجيم، لحقت جمالاً التاء لتأنيث الجمع، كحجر وحجارة. وقرأ ابن عباس والسلمي والأعمش وأبو حيوة وأبو نحرية وابن أبي عبلة ورويس : كذلك، إلا أنهم ضموا الجيم. قال ابن عباس وابن جبير : الجمالات : قلوص السفن، وهي حباله العظام، إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام. وقال ابن عباس أيضاً : الجمالات : قطع النحاس الكبار، وكان اشتقاق هذه من اسم الجملة. وقرأ الحسن : صفر، بضم الفاء ؛ والجمهور : بإسكانها، شبه الشرر أولاً بالقصر، وهو الحصن من جهة العظم ومن جهة الطول في الهواء ؛ وثانياً بالجمال لبيان التشبيه. ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان، وهي القصور ؟ قال الشاعر :
فوقفت فيها ناقتي فكأنهافدن لأقصى حاجة المتلوم
ومن قرأ بضم الجيم، فالتشبيه من جهة العظم والطول. والصفرة الفاقعة أشبه بلون الشرر، قاله الجمهور : وقيل : صفر سود، وقيل : سود تضرب إلى الصفرة. وقال عمران بن حطان الرقاشي :
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهمبمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى