ولما أنكروا البعث وتمردوا، شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقص تعالى عليه قصة موسى عليه السلام، وتمرد فرعون على الله عز وجل حتى ادعى الربوبية، وما آل إليه حال موسى من النجاة، وحال فرعون من الهلاك، فكان ذلك مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وتبشيراً بهلاك من يكذبه، ونجاته هو من أذاهم. فقال تعالى :﴿هَلْ أَتَـاكَ﴾، توقيفاً له على جمع النفس لما يلقيه إليه، وتقدم الكلام في الوادي المقدس، والخلاف في القراآت في ﴿طُوًى﴾. ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ : تفسير للنداء، أو على إضمار القول، ﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ﴾ : لطف في الاستدعاء لأن كل عاقل يجيب مثل هذا السؤال بنعم، وتزكى : تتحلى بالفضائل وتتطهر من الرذائل، والزكاة هنا يندرج فيها الإسلام وتوحيد الله تعالى. وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بخلاف تزكى وتصدى، بشد الزاي والصاد ؛ وباقي السبعة : بخفها. وتقول العرب : هل لك في كذا، أو هل إلى كذا ؟ فيحذفون القيد الذي تتعلق به إلى، أي هل لك رغبة أو حاجة إلى كذا ؟ أو سبيل إلى كذا ؟ قال الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤١٦
فهل لكم فيها إليّ فإننيبصير بما أعيا النطاسي حذيما
﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ : هذا تفسير للتزكية، وهي الهداية إلى توحيد الله تعالى ومعرفته، ﴿فَتَخْشَى ﴾ : أي تخافه، لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة، ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾. وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر، وفي الكلام حذف، أي فذهب وقال له ما أمره به ربه، وأتبع ذلك بالمعجزة الدالة على صدقه. ﴿فَأَرَاهُ الايَةَ الْكُبْرَى ﴾ : وهي العصا واليد، جعلهما واحدة، لأن اليد كأنها من جملة العصا لكونها تابعة لها، أو العصا وحدها لأنها كانت المقدمة، والأصل واليد تبع لها، لأنه كان يتقيها بيده. وقيل له ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ﴾. ﴿فَكَذَّبَ﴾ : أي فرعون موسى عليه السلام وما أتى به من المعجز، وجعل ذلك من باب السحر، ﴿وَعَصَى ﴾ الله تعالى بعدما علم صحة ما أتى به موسى، وإنما أوهم أنه سحر. ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ﴾، قيل : أدبر حقيقة، أي قام من مكانه فاراً بنفسه. وقال الجمهور : هو كناية عن إعراضه عن الإيمان. ﴿يَسْعَى ﴾ : يجتهد في مكايدة موسى عليه السلام. ﴿فَحَشَرَ﴾ : أي جمع السحرة وأرباب دولته، ﴿فَنَادَى ﴾ : أي قام فيهم خطيباً، أو فنادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه. ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى ﴾، قال ابن عطية : قول فرعون ذلك نهاية في المخرقة، ونحوها باق في ملوك مصر وأتباعهم. انتهى. وإنما قال ذلك لأن ملك مصر في زمانه كان اسماعيلياً، وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم، وكأن أول من ملكها منهم المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله، ولاهم العاضد وطهر الله مصر من هذا المذهب
٤٢١
الملعون بظهورالملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن سادي، رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام خيراً.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤١٦
﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاخِرَةِ وَالاولَى ﴾، قال ابن عباس : الآخرة قوله :﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى﴾، والأولى قوله :﴿أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى ﴾. وقيل العكس، وكان بين قولتيه أربعون سنة. وقال الحسن وابن زيد : نكال الآخرة بالحرق، والأولى يعني الدنيا بالغرق. وقال مجاهد : عذاب آخرة حياته وأولادها. وقال أبو زرين : الأولى كفره وعصيانه، والآخرة قوله :﴿أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى ﴾. وقال مجاهد عبارة عن أول معاصيه، وآخرها : أي نكل بالجميع، وانتصب نكال على المصدر والعامل فيه ﴿فَأَخَذَهُ﴾ لأنه في معناه وعلى رأي المبرد : بإضمار فعل من لفظه، أي نكل نكال، والنكال بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم. وقال الزمخشري :﴿نَكَالَ الاخِرَةِ﴾ هو مصدر مؤكد، كـ ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾، و﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾، كأنه قيل : نكل الله به نكال الآخرة والأولى. انتهى. والمصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة يقدر له عامل من معنى الجملة. ﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ﴾ : فيما جرى لفرعون وأخذه تلك الأخذ، ﴿لَعِبْرَةً﴾ : لعظة، ﴿لِّمَن يَخْشَى ﴾ : أي لمن يخاف عقوبة الله يوم القيامة وفي الدنيا.


الصفحة التالية
Icon