﴿طَغَى ﴾ : تجاوز الحد في عصيانه، ﴿وَءَاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا﴾ على الآخرة، وهي مبتدأ أو فصل. والعائد على من من الخبر محذوف على رأي البصريين، أي المأوى له، وحسن حذفه وقوع المأوى فاصلة. وأما الكوفيون فمذهبهم أن أل عوض من الضمير. وقال الزمخشري : والمعنى فإن الجحيم مأواه، كما تقول للرجل : غض الطرف، تريد طرفك ؛ وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة، ولكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره، تركت الإضافة. ودخول حرف التعريف في المأوى، والطرف للتحريف لأنهما معرفان. انتهى. وهو كلام لا يتحصل منه الرابط العائد على المبتدأ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين، ولم يقدر ضميراً محذوفاً، كما قدره البصريون، فرام حصول الربط بلا رابط.
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ : أي مقاماً بين يدي ربه يوم القيامة للجزاء ؛ وفي إضافة المقام إلى الرب تفخيم للمقام وتهويل عظيم واقع من النفوس موقعاً عظيماً. قال ابن عباس : خافه عندما هم بالمعصية فانتهى عنها. ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾ : أي عن شهوات
٤٢٣
النفس، وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بمحمود. قال سهل : لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين. وقال بعض الحكماء : إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه. وقال عمران الميرتليّ :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤١٦
فخالف هواها واعصها إن من يطعهوى نفسه تنزع به كل منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده وترم به في مصرع أي مصرع
وقال الفضيل : أفضل الأعمال خلاف الهوى، وهذا التفضيل هو عام في أهل الجنة وأهل النار. وعن ابن عباس : نزل ذلك في أبي جهل ومصعب بن عمير العبدري، رضي الله تعالى عنه. وعنه أيضاً :﴿فَأَمَّا مَن طَغَى ﴾، فهو أخ لمصعب بن عمير، أسر فلم يشدوا وثاقه، وأكرموه وبيتوه عندهم ؛ فلما أصبحوا حدثوا مصعباً، فقال : ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً فأوثقوه. ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ فمصعب بن عمير، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنفسه يوم أُحد حين تفرّق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه، وهي السهام. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلّم متشحطاً في دمه قال :"عند الله أحتسبك"، وقال لأصحابه :"لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما، وإن شراك نعله من ذهب". قيل : واسم أخيه عامر. وفي الكشاف، وقيل : الآيتان نزلتا في أبي عزير بن عمير ومصعب بن عمير، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزير يوم أُحد، ووقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه. انتهى.
﴿يَسْاَلُونَكَ﴾ : أي قريش، وكانوا يلحون في البحث عن وقت الساعة، إذ كان يتوعدهم بها ويكثر من ذلك، فنزلت هذه الآية. ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ : متى إقامتها ؟ أي متى يقيهما الله ويثبتها ويكونها ؟ وقيل : أيان منتهاها ومستقرها ؟ كما أن مرسى السفينة ومستقرها حيث تنتهي إليه. ﴿فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَآ﴾، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسأل عن الساعة كثيراً، فلما نزلت هذه الآية. انتهى. والمعنى : في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها ؟ أي لست من ذلك في شيء، ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ﴾. ﴿إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ﴾ : أي انتهاء علم وقتها، لم يؤت علم ذلك أحداً من خلقه. وقيل :﴿فِيمَ﴾ إنكار لسؤالهم، أي فيم هذا السؤال ؟ ثم قال :﴿أَنتَ مِن ذِكْرَاهَآ﴾، وعلامة من علاماتها، فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها.
﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ : أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون إنذارك لطفاً به في الخشية منها. انتهى. وهذا القول حكاه الزمخشري وزمكه بكثرة ألفاظه، وهو تفكيك للكلام وخروج عن الظاهر المتبادر إلى الفهم، ولم يخله من دسيسة الاعتزال. وقرأ الجمهور :﴿مُنذِرُ مَن﴾ بالإضافة. وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وأبو عمر في رواية وابن مقسم : منذر بالتنوين. وقال الزمخشري : وقرىء منذرر بالتنوين، وهو الأصل والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال ؛ فإذا أريد الماضي، فليس إلا الإضافة، كقولك : هو منذر زيد أمس. انتهى. أما قوله : وهو الأصل، يعني التنوين، فهو قول قد قاله غيره ممن تقدم. وقد قررنا في هذا الكتاب، وفيما كتبناه في هذا العلم أن الأصل الإضافة، لأن العمل إنما هو بالشبه، والإضافة هي أصل في الأسماء. وأما قوله : فإذا أريد الماضي، فليس إلا الإضافة، فهذا فيه تفصيل وخلاف مذكور في علم النحو. وخص ﴿مَن يَخْشَاهَا﴾ لأنه هو المنتفع بالإنذار. ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا﴾ : تقريب وتقرير لقصر مقامهم في الدنيا. ﴿لَمْ﴾ : لم يقيموا في الدنيا، ﴿يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً﴾ : يوم أو بكرته، وأضاف الضحى إلى العشية لكونها طرفي النهار. بدأ بذكر أحدهما، فأضاف الآخر إليه تجوّزاً واتساعاً، وحسن الإضافة كون الكلمة فاصلة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
٤٢٤
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤١٦


الصفحة التالية
Icon