وتبين من الإعراب السابق أن ﴿كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ﴾ بدل أو خبر مبتدأ محذوف. وكان ابن عطية قد قال : إن سجيناً موضع ساجن على قول الجمهور، وعبارة عن الخسار على قول عكرمة، من قال :﴿كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ﴾. من قال بالقول الأول في سجين، فكتاب مرتفع عنده على خبر إن، والظرف الذي هو ﴿لَفِى سِجِّينٍ﴾ ملغى. ومن قال في سجين بالقول الثاني، فكتاب مرقوم على خبر ابتداء مضمر التقدير هو ﴿كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ﴾، ويكون هذا الكتاب مفسراً لسجين ما هو. انتهى. فقوله : والظرف الذي هو ﴿لَفِى سِجِّينٍ﴾ ملغى قول لا يصح، لأن اللام التي في ﴿لَفِى سِجِّينٍ﴾ داخلة على الخبر، وإذا كانت داخلة على الخبر، فلا إلغاء في الجار والمجرور، بل هو الخبر. ولا جائز أن تكون هذه اللام دخلت في ﴿لَفِى سِجِّينٍ﴾ على فضلة هي معمولة للخبر أو لصفة الخبر، فيكون الجار والمجرور ملغى لا خبراً، لأن كتاب موصوف بمرقوم فلا يعمل، ولأن مرقوماً الذي هو صفة لكتاب لا يجوز أن تدخل اللام في معموله، ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف، فتعين بهذا أن قوله :﴿لَفِى سِجِّينٍ﴾ هو خبر إن.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٩
﴿الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ﴾ : صفة ذم، ﴿كُلُّ مُعْتَدٍ﴾ : متجاوز الحد،
٤٤٠
﴿أَثِيمٍ﴾ : صفة مبالغة. وقرأ الجمهور :﴿إِذَا﴾ ؛ والحسن : أئذا بهمزة الاستفهام. والجمهور :﴿تُتْلَى ﴾ بتاء التأنيث ؛ وأبو حيوة وابن مقسم : بالياء. قيل : ونزلت في النضر بن الحرث. ﴿بَلْا رَانَ﴾، قرىء بإدغام اللام في الراء، وبالإظهار وقف حمزة على بل وقفاً خفيفاً يسير التبيين الإظهار. وقال أبو جعفر بن الباذش : وأجمعوا، يعني القراء، على إدغام اللام في الراء إلا ما كان من سكت حفص على بل، ثم يقول :﴿رَانَ﴾، وهذا الذي ذكره ليس كما ذكر من الإجماع. ففي كتاب اللوامح عن قالون : من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء، نحو قوله :﴿بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾، ﴿بَل رَّبُّكُمْ﴾. وفي كتاب ابن عطية، وقرأ نافع :﴿بَلْا رَانَ﴾ غير مدغم، وفيه أيضاً : وقرأ نافع أيضاً بالإدغام والإمالة. وقال سيبويه : اللام مع الراء نحو : أسفل رحمه البيان والإدغام حسنان. وقال الزمخشري : وقرى بإدغام اللام في الراء، وبالإظهار والإدغام أجود، وأميلت الألف وفخمت. انتهى. وقال سيبويه : فإذا كانت، يعني اللام، غير لام المعرفة، نحو لام هل وبل، فإن الإدغام في بعضها أحسن، وذلك نحو : هل رأيت ؟ فإن لم تدغم فقلت : هل رأيت ؟ فهي لغة لأهل الحجاز، وهي غريبة جائزة. انتهى. وقال الحسن والسدي : هو الذنب على الذنب. وقال الحسن : حتى يموت قلبه. وقال السدي : حتى يسود القلب. وفي الحديث نحو من هذا. فقال الكلبي : طبع على قلوبهم. وقال ابن سلام : غطى. ﴿مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، قال ابن عطية : وعلق اللوم بهم فيما كسبوه، وإن كان ذلك بخلق منه تعالى واختراع، لأن الثواب والعقاب متعلقان بكسب العبد. والضمير في قوله :﴿إِنَّهُمْ﴾، فمن قال بالرؤية، وهو قول أهل السنة، قال إن هؤلاء لا يرون ربهم، فهم محجوبون عنه. واحتج بهذه الآية مالك على سبيله الرؤية من جهة دليل الخطاب، وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص. وقال الشافعي : لما حجب قوماً بالسخط، دل على أن قوماً يرونه بالرضا. ومن قال بأن لا رؤية، وهو قول المعتزلة، قال : إنهم يحجبون عن ربهم وغفرانه. نتهى. وقال أنس بن مالك : لما حجب أعداءه فلم يروه، تجلى لأوليائه حتى رأوه، وقال الزمخشري :﴿فَاقِرَةٌ * كَلا﴾ ردع عن الكسب الراثن على قلوبهم، وكونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم. قال الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٩
إذا اعتروا باب ذي عيبة رحبواوالناس ما بين مرحوب ومحجوب
وعن ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة : محجوبين عن رحمته. وعن ابن كيسان : عن كرامته. انتهى. وعن مجاهد : المعنى محجوبون عن كرامته ورحمته، وعن ربهم متعلق بمحجوبون، وهو العامل في يومئذ، والتنوين تنوين العوض من الجملة المحذوفة، ولم تتقدّم جملة قريبة يكون عوضاً منها، لكنه تقدم ﴿يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾، فهو عوض من هذه الجملة، كأنه قيل : يوم إذ يقوم الناس. ثم هم مع الحجاب عن الله هم صالوا النار، وهذه ثمرة الحجاب. ﴿ثُمَّ يُقَالُ﴾ : أي تقول لهم خزنة النار. ﴿هَـاذَا﴾، أي العذاب وصلي النار وهذا اليوم، ﴿الَّذِى كُنتُم بِهِا تُكَذِّبُونَ﴾. قال ابن عطية :﴿هَـاذَا الَّذِى﴾، يعني الجملة مفعول لم يسم فاعله لأنه قول بني له الفعل الذي هو يقال. انتهى. وتقدم الكلام على نحو هذا في أول البقرة في قوله تعالى :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ﴾.