﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾، قيل : نزلت في أبي جهل ؛ وقيل : في النضير بن الحارث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن. والآية عامة فيمن كان مضاراً لدين الله ؛ وأفاك أثيم، صفتا مبالغة ؛ وألفاظ هذه الآية تقدم الكلام عليها. وقرأ الجمهور : علم ؛ وقتادة ومطر الوراق : بضم العين وشد اللام ؛ مبنياً للمفعول، أي عرف. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى : ثم، في قوله :﴿ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا﴾ ؟ قلت : كمعناه في قول القائل :
يرى غمرات الموت ثم يزورها
وذلك بأن غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائبها بنفسه ويطلب الفرار منها، وأما زيارتها والإقدام على مزاولتها، فأمر مستبعد. فمعنى ثم : الإيذان بأن فعل المقدم عليها، بعدما رآها وعاينها، شيء يستبعد في العادة والطباع، وكذلك آيات الله الواضحة القاطعة بالحق، من تليت عليه وسمعها، كان مستبعداً في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها. ﴿اتَّخَذَهَا هُزُوًا ﴾، ولم يقل : اتخذه، إشعاراً بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلّم، خاض في الاستهزاء بجميع الآيات، ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه. وقال الزمخشري : ويحتمل ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَـاتِنَا شَيْـاًا﴾، يمكن أن يتشبث به المعاند ويجعله محملاً يتسلق به على الطعن والغميزة، افترضه واتخذ آيات الله هزواً، وذلك نحو افترص ابن الزبعري قوله عز وجل :﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾، ومغالطته رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقوله : خصمتك ؛ ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء، لأنه في معنى الآية كقول أبي العتاهية :
نفسي بشيء من الدنيا معلقةالله والقائم المهدي يكفيها
حيث أراد عتبة. انتهى. وعتبة جارية كان أبو العتاهية يهواها وينتسب بها. والإشارة بأولئك إلى كل أفاك، لشموله الأفاكين. حمل أولاً على لفظ كل، وأفرد على المعنى فجمع، كقوله :﴿كُلُّ حِزْبا بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾. ﴿مِّن وَرَآاِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ : أي من قدامهم، والوراء : ما توارى من خلف وأمام. ﴿وَلا يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْـاًا﴾ من الأموال في متاجرهم، ﴿وَلا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ من الأوثان. ﴿هَـاذَا﴾، أي القرآن، ﴿هُدًى ﴾، أي بالغ في الهداية، كقولك : هذا رجل، أي كامل في الرجولية. قرأ طلحة، وابن محيصن، وأهل مكة، وابن كثير، وحفص :﴿أَلِيمٍ﴾، بالرفع نعتاً لعذاب ؛ والحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعيسى، والأعمش، وباقي السبعة : بالجر نعتاً لرجز.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤١
﴿اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ﴾ الآية : آية اعتبار في تسخير هذا المخلوق العظيم، والسفن الجارية فيه بهذا المخلوق الحقير، وهو الإنسان. ﴿بِأَمْرِهِ﴾ : أي بقدرته. أناب الأمر مناب القدرة، كأنه يأمر السفن أن تجري. ﴿مِن فَضْلِهِ﴾ بالتجارة وبالغوص على اللؤلؤ والمرجان، واستخراج اللحم الطري. ﴿مَا فِي السَّمَـاوَاتِ﴾ من الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء، والأملاك الموكلة بهذا كله. ﴿وَمَا فِى الارْضِ﴾ من البهائم والمياه والجبال والنبات. وقرأ الجمهور :﴿مِّنْهُ﴾، وابن عباس : بكسر الميم وشد النون ونصب
٤٤
التاء على المصدر. قال أبو حاتم : نسبة هذه القراءة إلى ابن عباس ظلم. وحكاها أبو الفتح، عن ابن عباس، وعبد الله بن عمر، والجحدري، وعبد الله بن عبيد بن عمير، وحكاها أيضاً عن هؤلاء الأربعة صاحب اللوامح، وحكاها ابن خالويه، عن ابن عباس، وعبيد بن عمير. وقرأ سلمة بن محارب كذلك، إلا أنه ضم التاء، أي هو منه، وعنه أيضاً فتح الميم وشد النون، وهاء الكناية عائد على الله، وهو فاعل سخر على الإسناد المجازي، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك، أو هو منه. والمعنى، على قراءة الجمهور : أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة عنده، إذ هو موجدها بقدرته وحكمته، ثم سخرها لخلقه. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون يعني منه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي جميعاً منه، وأن يكون : وما في الأرض، مبتدأ، ومنه خبره. انتهى. ولا يجوز هذان الوجهان إلا على قول الأخفش، لأن جميعاً إذ ذاك حال، والعامل فيها معنوي، وهو الجار والمجرور ؛ فهو نظير : زيد قائماً في الدار، ولا يجوز على مذهب الجمهور.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤١


الصفحة التالية
Icon