﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ﴾، كانوا لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد، فيأكلون نصيبهم ويقولون : لا يأخذ الميراث إلا من يقاتل ويحمي الحوزة، والتراث تاؤه بدل من واو، كالتكلة والتخمة من توكلت ووخمت. وقيل : كانوا يأكلون ما جمعه الميت من الظلمة وهم عالمون بذلك يجمعون بين الحلال والحرام ويسرفون في إنفاق ما ورثوه لأنهم ما تعبوا في تحصيله، كما شاهدنا الوراث البطالين. ﴿كَلا﴾ : ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرطوا فيه في دار الدنيا. ﴿دَكًّا دَكًّا﴾ : حال كقولهم : باباً باباً، أي مكرراً عليهم الدّك. ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ﴾، قال القاضي منذر بن سعيد : معناه ظهوره للخلق هنالك، وليس بمجيء نقلة، وكذلك مجيء الطامّة والصاخة. وقيل : وجاء قدرته وسلطانه. وقال الزمخشري : هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قدرته وسلطانه، مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه، انتهى. والملك اسم جنس يشمل الملائكة. وروي أنه ملائكة كل سماء تكون صفاً حول الأرض في يوم القيامة. قال الزمخشري :﴿صَفًّا صَفًّا﴾ تنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس، انتهى.
﴿وَجِا ى ءَ يومئذ بِجَهَنَّمَ﴾، كقوله تعالى :﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى ﴾، ﴿يَوْمَـاِذٍ﴾ بدل من ﴿إِذَا﴾. قال الزمخشري : وعامل النصب فيهما يتذكر، انتهى. ظاهر كلامه أن العامل في البدل هو العامل نفسه في المبدل منه، وهو قول قد نسب إلى سيبويه، والمشهور خلافه، وهو أن البدل على نية تكرار العامل، أي يتذكر ما فرط فيه. ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴾ : أي منفعة الذكرى، لأنه وقت لا ينفع فيه التذكر، لو اتعظ في الدنيا لنفعه ذلك في الأخرى، قاله الجمهور. قال الزمخشري وغيره : أو وقت حياتي في الدنيا، كما تقول : جئت لطلوع الشمس ولتاريخ كذا وكذا. وقال قوم : لحياتي في قبري، يعني الذي كنت أكذب به. قال الزمخشري : وهذا أبين دليل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم وإرادتهم، وأنهم لم يكونوا محجورين عن الطاعات مجبرين على المعاصي، كمذهب أهل الأهواء والبدع، وإلا فما معنى التحسر ؟ انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٦٥
وقرأ الجمهور :﴿لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُا أَحَدٌ﴾ : مبنيين للفاعل، والضمير في ﴿عَذَابَهُا﴾، و﴿وَثَاقَهُا﴾ عائد على الله تعالى، أي لا يكل عذابه ولا وثاقه إلى أحد، لأن الأمر لله وحده في ذلك ؛ أو هو من الشدّة في حيز لم يعذب قط أحد في الدنيا مثله، والأول أوضح
٤٧١
لقوله :﴿لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُا أَحَدٌ﴾، ولا يطلق على الماضي إلا بمجاز بعيد، بل موضوع، لا إذا دخلت على المضارع أن يكون مستقبلاً. ويجوز أن يكون الضمير قبلها عائداً على الكافر، أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه. وقيل إلى الله، أي لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله للكافر، ويضعف هذا عمل لا يعذب في يومئذ، وهو ظرف مستقبل. وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق وسوّار القاضي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمرو : بفتح الذال والثاء مبنيين للمفعول، فيجوز أن يكون الضمير فيهما مضافاً للمفعول وهو الأظهر، أي لا يعذب أحد مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه، أو لا يحمل أحد عذاب الإنسان لقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى، وعذاب وضع موضع تعذيب. وفي اقتباس مثل هذا خلاف، وهو أن يعمل ما وضع لغير المصدر، كالعطاء والثواب والعذاب والكلام. فالبصريون لا يجيزونه ويقيسونه. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنهم : وثاقه بكسر الواو ؛ والجمهور : بفتحها، والمعذب هو الكافر على العموم. وقيل : هو أمية بن خلف. وقيل : أبيّ بن خلف. وقيل : المراد به إبليس ؛ وقام الدليل على أنه أشد من الناس عذاباً، ويدفع القول هذا قوله :﴿يَوْمَـاِذٍ يَتَذَكَّرُ الانسَـانُ﴾، والضمائر كلها مسوقة له.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٦٥


الصفحة التالية
Icon