وقد خلط ابن عطية في نقل القرآن، وله بعض عذر. فإنه لم يكن معرباً، فقال : وقرأ طلحة بن مصرف، وعيسى بخلاف عنه : سواء بالنصب، محياهم ومماتهم بالرفع، وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص، والأعمش : سواء بالنصب، محياهم ومماتهم بالنصب ؛ ووجه كلاً من القراءتين على ما تقتضيه صنعة الإعراب، وتبعه على هذا الوهم صاحب التحرير، وهو معذور، لأنه ناسخ من كتاب إلى كتاب ؛ والصواب ما استبناه من القراءات لمن ذكرنا. ويستنبط من هذه الآية تباين حال المؤمن العاصي من حال الطائع، وإن كانت في الكفار، وتسمى مبكاة العابدين. وعن تميم الداري، رضي الله عنه، أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكي ويردد إلى الصباح :﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾. وعن الربيع بن خيثم، أنه كان يردّدها ليلة أجمع، وكذلك الفضيل بن عياض، كان يقول لنفسه : ليت شعري من أي الفريقين أنت ؟ وقال ابن عطية : وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر، بدليل معادلته بالإيمان ؛ ويحتمل أن تكون المعادلة هي بالاجتراح وعمل الصالحات، ويكون الإيمان في الفريقين، ولهذا بكى الخائفون.
﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ : هو كقوله :﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا ﴾، وتقدم إعرابه في البقرة. وقال ابن عطية : هنا ما مصدرية، والتقدير : ساء الحكم حكمهم. ﴿بِالْحَقِّ﴾ : بأن خلقها حق، واجب لما فيه من فيض الخيرات، وليدل عليه دلالة الصنعة على الصانع. : هي لام كي معطوفة على بالحق، لأن كلاًّ من التاء واللام يكونان للتعليل، فكان الخلق معللاً بالجزاء. وقال الزمخشري : أو على معلل محذوف تقديره : ليدل بها على قدرته، ﴿بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْس﴾. وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون لام الصيرورة، أي فصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون، لأن يجازي كل واحد بعمله، وبما اكتسب من خير أو شر. انتهى. ﴿أَفَرَءَيْتَ﴾ الآية، قال مقاتل : نزلت في الحرث بن قيس السهمي، وأفرأيت : هو بمعنى أخبرني، والمفعول الأول هو :﴿مَنِ اتَّخَذَ﴾، والثاني محذوف تقديره بعد الصلاة التي لمن اهتدى، يدل عليه قوله بعد :﴿فَمَن يَهْدِيهِ مِنا بَعْدِ اللَّهِ﴾، أي لا أحد يهديه من بعد إضلال الله إياه. ﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاهُ﴾ : أي هو مطواع لهوى نفسه، يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده، كما يعبد الرجل إلهه. قال ابن جبير، إشارة إلى الأصنام : إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة. وقال قتادة : لا يهوى شيئاً إلا ركبه، لا يخاف الله، فلهذا يقال : الهوى إله معبود. وقرأ الأعرج، وأبو جعفر : آلهة، بتاء التأنيث، بدل من هاء الضمير. وعن الأعرج أنه قرأ : آلهة على الجمع. قال ابن خالويه : ومعناه أن أحدهم كان يهوى الحجر فيعبده، ثم يرى غيره فيهواه، فيلقى الأول، فكذلك قوله :﴿إِلَـاهَه هَوَاهُ﴾ الآية. وإن نزلت في هوى الكفر، فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة. قال ابن عباس : ما ذكر الله هوى إلاّ ذمه. وقال وهب : إذا شككت في خبر أمرين، فانظر أبعدهما من هواك فأته. وقال سهل التستري : هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك. وفي الحديث :"والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني". ومن حكمه الشعر قول عنترة، وهو جاهلي :
٤٨
إني امرؤ سمح الخليقة ماجدلا أتبع النفس اللجوج هواها
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤١
وقال أبو عمران موسى بن عمران الإشبيلي الزاهد، رحمه الله تعالى :
فخالف هواها واعصها إن من يطعهوى نفسه ينزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوج تردهوترم به في مصرع أي مصرع
﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ : أي من الله تعالى سابق، أو على علم من هذا الضال بأن الحق هو الدين، ويعرض عنه عناداً، فيكون كقوله :﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ﴾. وقال الزمخشري : صرفه عن الهداية واللطف، وخذ له عن علم، عالماً بأن ذلك لا يجدي عليه، وأنه ممن لا لطف به، أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقربة. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. وقرأ الجمهور :﴿غِشَـاوَةً﴾ : بكسر الغين ؛ وعبد الله، والأعمش : بفتحها، وهي لغة ربيعة. والحسن، وعكرمة، وعبد الله أيضاً : بضمها، وهي لغة عكلية. والأعمش، وطلحة، وأبو حنيفة، ومسعود بن صالح، وحمزة، والكسائي، غشوة، بفتح الغين وسكون الشين. وابن مصرف، والأعمش أيضاً : كذلك، إلا أنهما كسرا العين، وتقدم تفسير الجملتين في أول البقرة. وقرأ الجمهور :﴿تَذَكَّرُونَ﴾، بشد الذال ؛ والجحدري يخففها، والأعمش : بتاءين.