قال الحوفي : ورد هذا القول جماعة، وقالوا : لو كان كذا لكان لإيلاف بعض سورة ألم تر ؛ وفي إجماع الجميع على الفصل بينهما ما يدل على غير ما قال، يعني الأخفش والكسائي والفراء، تتعلق بأعجبوا مضمرة، أي اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة رب هذا البيت، ثم أمرهم بالعبادة بعد وأعلمهم أن الله هو الذي أطعمهم وآمنهم لا آسفهم، أي فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة أبيهم حيث قال :﴿وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ﴾، وآمنهم بدعوته حيث قال :﴿رَبِّ اجْعَلْ هذا الْبَلَدَ ءَامِنًا﴾، ولا تشتغلوا بالأسفار التي إنما هي طلب كسب وعرض دنيا. وقال الخليل بن أحمد : تتعلق بقوله :﴿فَلْيَعْبُدُوا ﴾، والمعنى لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من إلفهم هذه النعمة. ﴿فَلْيَعْبُدُوا ﴾ : أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلة. قال الزمخشري : فإن قلت : فلم دخلت الفاء ؟ قلت : لما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى : إما لا فليعبدوا لإيلافهم على معنى أن نعم الله عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الواحدة التي هي نعمة ظاهرة، انتهى. وقرأ الجمهور :﴿لايلَـافِ قُرَيْشٍ﴾، مصدر آلف رباعياً ؛ وابن عامر : لالاف على وزن فعال، مصدر ألف ثلاثياً. يقال : ألف الرجل الأمر إلفاً وإلافاً، وآلفه غيره إياه إيلافاً، وقد يأتي ألف متعدياً لواحد كإلف، قال الشاعر :
من المؤلفات الرمل أدماء حرةشعاع الضحى في متنها يتوضح
ولم يختلف القراء السبعة في قراءة إيلافهم مصدراً للرباعي. وروي عن أبي بكر، عن عاصم أنه قرأ بهمزتين، فيهما الثانية ساكنة، وهذا شاذ، وإن كان الأصل أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين، ولم يبدلوا في نحو يؤلف على جهة اللزوم لزوال الاستثقال بحذف الهمزة فيه، وهذا المروي عن عاصم هو من طريق الشمني عن الأعشى عن أبي بكر. وروى محمد بن داود النقار عن عاصم : إإيلافهم بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبع كسرتها، والصحيح رجوع عاصم عن الهمزة الثانية، وأنه قرأ كالجماعة. وقرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري : لإلف قريش ؛ وقرأ فيما حكى ابن عطية الفهم. قال الشاعر :
زعمتم أن إخوتكم قريشالهم إلف وليس لكم إلاف
جمع بين مصدري ألف الثلاثي. وعن أبي جعفر وابن عامر : إلا فهم على وزن فعال. وعن أبي جعفر وابن كثير : إلفهم على وزن فعل، وبذلك قرأ عكرمة. وعن أبي جعفر أيضاً : ليلاف بياء ساكنة بعد اللام اتبع، لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفاً على غير قياس. وعن عكرمة : ليألف قريش ؛ وعنه أيضاً : لتألف قريش على الأمر، وعنه وعن هلال بن فتيان : بفتح لام الأمر، وأجمعوا هنا على صرف قريش، راعوا فيه معنى الحي، ويجوز منع صرفه ملحوظاً فيه معنى القبيلة للتأنيث والعلمية. قال الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥١٣
وكفى قريش المعضلات وسادها
جعله اسماً للقبيلة سيبويه في نحو معد وقريش وثقيف، وكينونة هذه للإحياء أكثر، وإن جعلتها اسماً للقبائل فجائز حسن. وقرأ الجمهور :﴿رِحْلَةَ﴾ بكسر الراء ؛ وأبو السمال : بضمها، فبالكسر مصدر، وبالضم الجهة التي يرحل إليها، والجمهور على أنهما رحلتان. فقيل : إلى الشام في التجارة ونيل الأرباح، ومنه قول الشاعر :
سفرين بينهما له ولغيرهسفر الشتاء ورحلة الأصياف
وقال ابن عباس : رحلة إلى اليمن، ورحلة إلى بصرى. وقال : يرحلون في الصيف إلى الطائف
٥١٤
حيث الماء والظل، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم. وقال الزمخشري : وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس، كقوله :
كلوا في بعض بطنكم تعفوافإن زمانكم زمن خميص
انتهى، وهذا عند سيبويه لا يجوز إلا في الضرورة، ومثله :
حمامة بطن الواديين ترنمي
يريد : بطني الواديين، أنشده أصحابنا على الضرورة. وقال النقاش : كانت لهم أربع رحل. قال ابن عطية : وهذا قول مردود. انتهى، ولا ينبغي أن يرد، فإن أصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة وهم : بنو عبد مناف هاشم، كان يؤلف ملك الشام، أخذ منه خيلاً، فأمن به في تجارته إلى الشام، وعبد شمس يؤلف إلى الحبشة ؛ والمطلب إلى اليمن ؛ ونوفل إلى فارس. فكان هؤلاء يسمون المجبرين، فتختلف تجر قريش إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم. قال الأزهري : الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة، فإذا كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع، باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجار في خفارة هؤلاء الأربعة فيها، وفيهم يقول الشاعر يمدحهم :
يا أيها الرجل المحول رحلههلا نزلت بآل عبد مناف
الآخذون العهد من آفاقهاوالراحلون لرحلة الإيلاف
والرائشون وليس يوجد رائشوالقائلون هلمّ للأضياف
والخالطون غنيهم لفقيرهمحتى يصير فقيرهم كالكافي


الصفحة التالية
Icon