﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا ﴾ : تقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة فصلت. ولما ذكر :﴿جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، قال :﴿وَوَصَّيْنَا﴾، إذ كان بر الوالدين ثانياً أفضل الأعمال، إذ في الصحيح : أي الأعمال أفضل ؟ فقال الصلاة على ميقاتها قال : ثم أي ؟ قال : ثم بر الوالدين، وإن كان عقوقهما ثاني أكبر الكبائر، إذ قال عليه الصلاة والسلام :"ألا أنبئكم ؟ بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين"، والوارد في برهما كثير. وقرأ الجمهور : حسناً، بضم الحاء وإسكان السين ؛ وعلي، والسلمي، وعيسى : بفتحهما ؛ وعن عيسى : بضمهما ؛ والكوفيون : إحساناً، فقيل : ضمن ووصينا معنى ألزمنا، فيتعدى لاثنين، فانتصب حسناً وإحساناً على المفعول الثاني لوصينا. وقيل : التقدير : إيصاء ذا حسن، أو ذا إحسان. ويجوز أن يكون حسناً بمعنى إحسان، فيكون مفعولاً له، أي ووصيناه بهما لإحساننا إليهما، فيكون الإحسان من الله تعالى. وقيل : النصب على المصدر على تضمين وصينا معنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحساناً. وقال ابن عطية : ونصب هذا يعني إحساناً على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور ؛ والباء متعلقة بوصينا، أو بقوله : إحساناً. انتهى. ولا يصح أن يتعلق بإحساناً، لأنه مصدر بحرف مصدري والفعل، فلا يتقدم معموله عليه، ولأن أحسن لا يتعدى بالباء، إنما يتعدى باللام ؛ تقول : أحسنت لزيد، ولا تقول : أحسنت بزيد، على معنى أن الإحسان يصل إليه. وتقدم الكلام ﴿وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَـانًا ﴾ في سورة العنكبوت، وانجر هنا بالكلام على ذلك مزيداً للفائدة.
﴿حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا﴾ : لبس الكره في أول علوقها، بل في ثاني استمرار الحمل، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه. انتهى. ولا يلحقها كره إذ ذاك، فهذا احتمال بعيد. وقال مجاهد، والحسن، وقتادة : المعنى حملته مشقة، ووضعته مشقة. وقرأ الجمهور : بضم الكاف ؛ وشيبة، وأبو جعفر، والأعرج، والحرميان، وأبو عمرو : بالفتح ؛ وبهما معاً : أبو رجاء، ومجاهد، وعيسى ؛ والضم والفتح لغتان بمعنى واحد، كالعقر والعقر. وقالت فرقة : بالضم المشقة، وبالفتح الغلبة والقهر، وضعفوا قراءة الفتح. وقال بعضهم : لو كان بالفتح، لرمت به عن نفسها إذ معناه : القهر والغلبة. انتهى. وهذا ليس بشيء، إذ قراءة الفتح في السبعة المتواترة. وقال أبو حاتم : القراءة بفتح الكاف لا تحسن، لأن الكره بالفتح، النصب والغلبة. انتهى. وكان أبو حاتم يطعن في بعض القرآن بما لا علم له به جسارة منه، عفا الله عنه، وانتصابهما على الحال من ضمير الفاعل، أي حملته ذات كره، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي حملاً ذاكره.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢
﴿وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا ﴾ : أي ومدة حمله وفصاله، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصاً ؛ إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين، وإما أن تلد لتسعة أشهر على العرف وترضع عامين غير ربع عام. فإن زادت مدة الحمل، نقصت مدة الرضاع. فمدة الرضاع عام وتسعة أشهر، وإكمال العامين لمن أراد أن يتم الرضاعة. وقد كشفت التجربة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، كنص القرآن. وقال جالينوس : كنت شديد الفحص عن مقدر زمن الحمل، فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة. وزعم ابن سينا أنه شاهد ذلك ؛ وأما أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه. قال ابن سينا في الشفاء : بلغني من جهة من أثق به كل الثقة، أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل، ولدت ولداً نبتت أسنانه. وحكي عن أرسطا طاليس أنه قال : إن مدة الحمل لكل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان، فربما وضعت لسبعة أشهر، ولثمانية، وقل ما يعيش الولد في الثامن، إلا في بلاد معينة مثل مصر. انتهى. وعبر عن الرضاع بالفصال، لما كان الرضاع يلي الفصال
٦٠
ويلابسه، لأنه ينتهي به ويتم، سمي به. وقرأ الجمهور : وفصاله، وهو مصدر فاصل، كأنه من اثنين : فاصل أمه وفاصلته. وقرأ أبو رجاء، والحسن، وقتادة، والجحدري : وفصله، قيل : والفصل والفصال مصدران، كالفطم والفطام. وهنا لطيفة : ذكر تعالى الأم في ثلاثة مراتب في قوله : بوالديه وحمله وإرضاعه المعبر عنه بالفصال، وذكر الولد في واحدة في قوله : بوالديه ؛ فناسب ما قال الرسول من جعل ثلاثة أرباع البر للأم والربع للأب في قول الرجل :"يا رسول الله، من أبر ؟ قال : أمك، قال : ثم من ؟ قال : أمك، قال : ثم من ؟ قال : أمك، قال : ثم من ؟ قال : أباك".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢


الصفحة التالية
Icon